تقف اليوم محافظة إدلب أكثر من أي وقت على حافة بركان، فيما ستؤول إليه الظروف الاقتصادية والعسكرية والاجتماعية في المنطقة التي تعدّ اليوم أكبر معاقل الثورة والخزان البشري الأهم سواء من حيث عدد المدنيين أو مقاتلي الفصائل المسلحة وهذا ما يضعنا أمام الكثير من التساؤلات حول مصير المدينة.
نظرة عامة
قبل أن تتحول إدلب إلى ملجأ لمئات الآلاف من السوريين النازحين، كانت المحافظة تعاني انقساماً واضحاً حول بنية ومفهوم الثورة، ففي الوقت الذي تحررت فيه مدنها الكبرى منذ بدايات 2011، وشهدت معظم قراها الكثير من المظاهرات والالتحاق بركب الثورة، كانت إدلب المدينة تحت حكم نظام الأسد بالرغم من شبه الحصار المطبق عليها من جهاتها الثلاث، ومع تحريرها خرج مئات الآلاف برفقة الأسد وجنوده ليستوطنوا في حماه واللاذقية، رافضين فكرة الثورة أو حتى العيش في كنفها، وباتت إدلب أكبر المحافظات المحررة من قوات الأسد منذ 2015، باستثناء قريتي كفريا والفوعة الشيعيتين المحاصرتين.
وبالنظر إلى البنية التكوينية لمقاتلي إدلب نجد في ذلك الوقت غياباً لتنظيم داعش، وسيطرة شبه كاملة للكتائب والألوية المقاتلة من القرى أنفسها، بالإضافة إلى حركة أحرار الشام التي كانت أكبر الفصائل العاملة في إدلب حتى منتصف 2014، وجبهة النصرة التي بدأت بالتمدد خاصة بعد إنهائها للعديد من الفصائل كحركة حزم وجبهة ثوار سوريا وأحرار الزاوية، ثم الإعلان عن جيش الفتح من ائتلاف سبعة فصائل كبرى في آذار 2015، ليحرر المدينة وينهي وجود قوات الأسد على كافة أراضي المحافظة (باستثناء كفريا والفوعه كما أسلفنا)، ولتبدأ عمليات التفكك فيه في نهاية عام 2015، بانسحاب جند الأقصى منه ثم ليتفكك نهائياً مع تشكيل حركة تحرير الشام وإعلانها عن الإدارة المدنية (حكومة الإنقاذ) وسيطرتها على المنطقة والمعابر الحدودية.
الحرب التي شنتها الهيئة ضد كل من يقف في طريقها من فصائل، أدى إلى موجة غضب على حكمها من قبل الأهالي والفصائل الأخرى المتواجدة، والتي شكلت باندماج حركة الزنكي وأحرار الشام جبهة تحرير سوريا، التي استطاعت خلال الأشهر الماضية ومنذ بداية العام الحالي السيطرة على العديد من المواقع والقرى التابعة للهيئة، كما انتشرت مظاهرات كبيرة ضد الهيئة في معرة النعمان وسراقب وبنش …. مطالبة الهيئة بالخروج من مدنها.
الواقع الاقتصادي والاجتماعي في المدينة
تغيرت البنية السكانية في محافظة إدلب بعد أن تحولت إلى ملجأ كبير لأكثر من 1.2 مليون لاجئاً (من داخل وخارج المحافظة)، إثر خسارة العديد من المناطق الثورية وتهجير أهلها من قبل قوات الأسد، كحلب وريف حماه وحمص وريف دمشق، وكان آخرها أهالي الغوطة الذين هُجروا إلى إدلب بموجب تفاهمات مع الجانب الروسي حليف الأسد الأكبر، ليصل عددهم إلى 44750 مهجراً في آذار الماضي وحده، في حين تتحدث أرقام عن وجود أكثر من 100 ألف مهجر سيأتون إلى إدلب من باقي مناطق الغوطة، وفق تفاهمات أعلن عنها مسؤولون في حكومة الأسد ونفاها جيش الإسلام الفصيل الأكبر في الغوطة، مع أنباء عن خروج مقاتلي فيلق الرحمن وعائلاتهم من دوما ووصول بعضهم في 2/4/2018 إلى إدلب.
وفي إحصائية لمنسقي الاستجابة في الشمال السوري قالت إن عدد السكان الأصليين في محافظة إدلب 900 ألف في حين يصل العدد الكلي للسكان فيها ما يقارب 3.5 مليون نسمة، أي ما يعادل نسبة الربع، وهذا إن كان يدل على شيء فهو سيغير من البنية الاجتماعية لأهالي المنطقة، الذين قالوا بأن عادات المدينة وطريقة حياتها بدأت تفقد هويتها، من خلال التأثر بالقادمين الجدد، وذهب بعضهم إلى القول إن إدلب المدينة فقدت معظم سكانها، وباتت تمثل مناطق من مختلف سوريا بما فيها العراقيين والفلسطينيين وينقصها وجود الأدالبة.
أما من الناحية الاقتصادية فقد كان للعدد الكبير القادم إلى المحافظة أثره في تراجع الواقع الاقتصادي الذي (يعاني أساساً قبل الثورة من الفقر وانعدام المشاريع وغياب التنظيم والمعامل الكبرى، وحتى الملكيات الزراعية البسيطة التي يملكها الأهالي، وهذا ما جعل معظم سكان المدينة يتجهون إلى العاصمة دمشق أو إلى لبنان للعمل)، وبات الحصول على منزل في المحافظة أمراً بالغ الصعوبة فالمحافظة خلت من المباني الطابقية إلا في بعض المدن الرئيسية، بالإضافة إلى الدمار الكبير في بعض المدن الكبرى كمعرة النعمان وأريحا وجسر الشغور ومناطق في إدلب المدينة، ومشاريع البناء الجديدة مع غلاء الأسعار لم تواكب التضاعف السكاني فيها فتجاوز إيجار المنازل فيها حاجز 100 دولار في بعض القرى و150 دولاراً في المدن الكبرى، خاصة مع زيادة الطلب عليها.
حصار المدينة من جهاتها الثلاث، باستثناء تركيا، جعلها عرضة للاستغلال من قبل تجار نظام الأسد الذين فرضوا ضرائب هائلة على المحروقات والمواد الغذائية، ما أثر على قدرة المواطن الشرائية. بالإضافة إلى عفرين، سابقاً قبل غصن الزيتون، والتي كانت مصدراً للمحروقات والمنتجات الغذائية والدوائية والتي فرضت بدورها ضرائب تجاوزت 7% لتصل أحياناً إلى 25% على بعض السلع، ناهيك عن تحكم الفصائل العسكرية بهذه المعابر وفرض رسومها الخاصة عليها أيضاً، أما معبر باب الهوى مع تركيا فقد كان يمثل شريان الحياة بالنسبة إلى إدلب على الرغم من ارتفاع أسعار المواد المستوردة والرسوم المفروضة عليها.
وفي قطاع المياه والكهرباء فقد اعتمد الأهالي على الآبار الارتوازية وشراء المياه (4000 ليرة لكل صهريج يكفي العائلة لمدة أسبوع)، ومولدات الكهرباء التي تعمل على المازوت غير المتوفر أصلاً في المنطقة (1200 لكل أمبير أسبوعياً بواقع ساعتين يومياً).
الواقع العسكري
تصاعد القتال العسكري بين هيئة تحرير الشام وجبهة تحرير سوريا، التي استطاعت انتزاع العديد من مناطق نفوذ الهيئة في المنطقة خلال شهر شباط الماضي وما زال القتال دائراً، وتتنامى فكرة وصول مقاتلي الغوطة الشرقية الذين يعانون في الأصل من اقتتال داخلي بين جيش الإسلام من جهة والنصرة وفيلق الرحمن من جهة أخرى، ولكل من هذه الفصائل امتدادات وتفاهمات سابقة مع فصائل في إدلب، فهل ستشهد المنطقة تغيراً في خرائط الصراع للتنافس على السيطرة بين الفصائل، وهل سيشترك مقاتلو الغوطة في هذا الصراع؟
لا يمكن لمن يعيش في هذه المنطقة النأي بنفسه خارج دائرة الصراعات تلك، وربما ستشهد الأيام القادمة اصطفافات جديدة ستغير من خريطة الصراع.
تركيا في إدلب
تبقى الأجندة التركية غير واضحة المعالم في إدلب، قبلتها الثانية بعد معركة غصن الزيتون الأخيرة كما صرح رئيسها أردوغان، بعد تشكيل قوس يصل ريف حلب الشمالي مناطق درع الفرات بالغربي في إدلب، ووضع العديد من نقاط المراقبة بموافقة هيئة تحرير الشام وفق تفاهم مناطق خفض لتصعيد الأخيرة.
لكن الأمر لن يقف عند هذا الحد، فآلاف من المقاتلين الذين أنهت هيئة تحرير الشام وجودهم في إدلب كانوا قد ذهبوا إلى مناطق درع الفرات وخاصة حركة أحرار الشام، أحد طرفي الصراع مع الهيئة، والتي سيعود جزء كبير من مقاتليها إليها مع فتح الطريق، بالإضافة إلى الجو العام السائد بين مقاتلي درع الفرات في الرغبة بالخلاص من هيئة تحرير الشام، وهذا ما سيفتح الطريق إلى مواجهات دامية واقتتال فصائلي في إدلب.
الأسد عين على إدلب
تتوجه أنظار قوات الأسد وحلفائه إلى إدلب، ويسعى من خلال عمليات عسكرية خاضها سابقاً منذ بداية 2018، إلى قضم المناطق شرق السكة وتجاوزها إلى قرى مناطق غرب السكة وقرى في ريف حلب الجنوبي ضارباً عرض الحائط بالتفاهمات الدولية، ومتجاوزاً خطوطها الحمراء بدعم روسي إيراني.
فهل ستكون إدلب محرقة الأسد الجديدة بعد أن أمن محيط العاصمة دمشق؟
معظم التحليلات السياسية لمسؤولي الأسد والمواقع الالكترونية المقربة منه، ترى أن معركة إدلب هي الأخيرة في سعي الأخير للسيطرة على كامل سوريا، كما تقلل من شأنها، وترى أن انهيارات سريعة ستحدث بين صفوف مقاتليها
معتمدين على الاقتتال الحاصل بين الفصائل وضعف الروح المعنوية في صفوف الثوار “بعد الانتصارات الأخيرة التي حققتها قوات الأسد”، بالإضافة إلى تخلي المجتمع الدولي عن الثورة السورية، إذ لم يحرك ساكناً تجاه كل المجازر التي ارتكبتها هذه القوات، من قصف بالصواريخ والقذائف والغازات المحرمة والقنابل العنقودية.
أخيراً
في الاستجابة الأخيرة لاستقبال مهجري الغوطة بات علينا أن نراهن على روح الثورة الأصيلة، التي ما زالت تعشش في نفوس السوريين بنسيجهم الاجتماعي لإبقاء جذوة الثورة مشتعلة، والسعي بها نحو طريق الحرية المطلب الأول للثورة على امتداد الجغرافيا السورية.