أن تضع قدماً في بلد الفن، ذلك لم يكن في حسبان “جلال مامو” ابن حي كرم الميسر في مدينة حلب، حين حمل “هاتفه المحمول” لتصوير المظاهرات الأولى في المدينة، كل ما كان يريده وقتها “أن يفتح يديه للحرية، يستنشق وجوده وإحساسه بالكرامة، وينقل تلك الثنائية من المشاعر والتوثيق كي لا يطويها النسيان”.
كان لا بد وقتها من كسر طوق التعتيم الإعلامي الذي رافق السوريين حول ما حدث في ثمانينيات القرن الماضي، كيف غابت كل تلك الوجوه عن المشهد، “إن لم نستطع أن ننتصر فعلينا أن نبقي لقضيتنا ذلك الألق”.
آلاف الصور لمصورين هواة من الداخل السوري انتشرت عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، كل نقطة في البلاد كانت مغرية لتصويرها، كانت الكاميرا تحتفظ بذاكرة البلد، وتحول المشهد المأساوي إلى جمال، جمال بحجم قضية محقة.
عشرات من الجوائز العالمية انتزعها مصورون هواة في سوريا الثورة خلال السنوات الأخيرة، ليتحولوا إلى محترفين، يضفون على عينهم المبصرة، عيناً أخرى للكاميرا، والكثير من المشاعر لتحتل فضاءات العالم الافتراضي، ودور المعارض في كبريات الدول الأوروبية، والأهم من ذلك كله “كانت تحتل مكانها في الوجدان الإنساني العالمي”.
على يد المصور محمد لبابيدي في 2012 ثم المبدع السوري مظفر سلمان تحول جلال مامو إلى مصور محترف، يعطي للصورة أفقها، ويراكب الصور لتغدو جزء من اكتمالية مشهد، سيجده متأخراً في فرنسا وهو يبحث في صوره عن قصة كاملة، وقتها شعر بأن “لا وقت للغد” هو جل ما أراد أن يخبرنا به طيلة السنوات التي قضاها في حلب، ومحور مئات الصور التي التقطها.
مع شبكة شام الإخبارية والعديد من الوكالات العربية والأجنبية، حمل جلال سلاح الكاميرا -الأشد فتكاً من الرصاص- ليظهر للعالم حقيقة ما كان يحدث هناك، حيث الموت يسكن كل شيء، والحياة تنبت من بين الأصابع.
انتقل جلال إلى تركيا في العام 2014 ليمضي سنتين من حياته حتى عام 2016، بين مدينته حلب وغازي عينتاب التركية، لينتقل بعدها إلى فرنسا منتصف عام 2016.
أراد جلال أن يدخل فرنسا من “بوابة فهم الناس”، تلك قضية تعلمها من الانتظار والصبر الذي يرافق مهنته في التصوير، ليكون حاضراً في الوقت المناسب، يضغط على زر الالتقاط، ويبقى المشهد عالقاً دائماً، ذلك لأن لا مشهد في الحياة يتكرر مرتين.
في دروس اللغة الفرنسية التي يتعلمها، جمعه مدرسوه بالمسؤول عن المركز الثقافي في آب 2017 لإقامة معرضه الأول، ظن أن الأمر سيمر كغيره، هذه المرة كان على موعد مع التحضير لمعرضه بعد أن حدد له المركز الثقافي أيام 12 إلى 22 كانون الثاني 2018 كموعد لمعرضه.
بين أرشيفه وآلاف الصور المختزنة هناك، كان جلال يفتش عن اسم يحمل ما يريد قوله، “لا وقت للغد” هو ما كان يفكر فيه، الحياة في حلب التي استعادها كشريط قديم أمامه كانت توحي بأن لا وقت للغد، الشبان الذين يأكلون طعامهم على عجل، ويطلقون رصاصهم على عجل، يضحكون ويبكون، يتزوجون وينجبون، يصرخون ويدندنون على أصوات المدافع والبراميل المتفجرة، مشهدية الحياة والأمل المرسوم على ضحكات الصغار، الأمهات التي تودع أبناءها وتحصنهم بالدعاء، الزهور التي تخرج من بندقية، وبائع الخضار الذي يصفف تفاحه بطريقة هندسية مرتبة وسط أكوام من الموت والدمار، كلها توحي بأن لا وقت للغد، كل ما نريده ونشتهيه علينا أن نكونه الآن، فالحياة لا تنتظر أحداً.
جانب من الحضور في معرض”لا وقت للغد” في فرنسا للفنان السوري جلال مامو
اختيار الصور كانت المرحلة الثانية في الطريق إلى يوم 12 كانون الثاني، يعي جلال أن المشكلة في إعلام الثورة كانت تكمن في أن لا تطابق هناك بين الصورة أو الفيديو مع الكلمات، الصورة وحدها قادرة على الحياة بعيداً عن الكلمات، ولكن أصوات الشخوص في صوره كانت تطن في أذنيه، استعارها من الذاكرة وأطفأها على الورق، لكل صورة حكاية ولكل حكاية شخوص، كان لا بد أن يأخذوا حقهم من الحياة، حتى لو كانت هذه الحياة على لوحة في جدار بطول متر أو متر ونصف، حجم لوحات المعرض.
صورة من صور معرض “لاوقت للغد” للمصور جلال مامو
“خرجنا في الليل من حلب التي لم تر الكهرباء منذ أشهر. ركبنا السيارة التي ستوصلنا إلى الحدود. عند الحدود مشينا 5 كيلومترات كي لا ترانا الجندرمة التركية، عندما بدأنا نرى أنوار مدينة كيليس التركية، بدأ ذلك الشعور يتغلغل إلى صدورنا، إنه شعور الغربة الذي هو أقسى من الحرب” هذه النصوص رسائل هكذا قال جلال وهو ينظر إلى لوحاته الثلاثين المعلقة في مسرح المركز الثقافي الذي يضج بالناس، النصوص المترجمة إلى الإنكليزية والفرنسية جعلت الجميع يقف ليقرأ، ليستمع إلى ما يدور في كواليس الصورة، لأشخاص ماتوا وآخرين ما زالوا يعيشون على حافة الحياة حيث لا وقت للغد.
صورة من صور معرض “لاوقت للغد” للمصور جلال مامو
“قرأت يوماً عن الثورة البرتغالية وكنت أحلم أنه عندما تبدأ الثورة في سوريا، سأنزل إلى الشارع، وأضع وردة في فوهات بنادق الجيش السوري، ولكن عندما شاهدت الجيش السوري يقتل أخي ويعتقل صديقي، اضطررت لوضع وردتي في بندقيتي”
أمام ردود الفعل في المعرض، وقف جلال يحلم بالرسائل الأخرى التي سيوصلها عن الثورة في معرضيه الجديدين اللذين دعي إليهما من جديد.
مصطفى أبو شمس