تُشدّ رحال الذاكرة إلى حلب، حين نحن على مشارف ما يحدث في الغوطة. أردت بداية أن أبحث (أنا المواطن) عن مواقع الاختلاف لا الاتفاق بين ما حدث في حلب 2016، وبين ما يحدث اليوم في ريف دمشق، كي أتجنب، ولو على سبيل الحلم، مصيراً مشابهاً لأهالي الغوطة اليوم، عن ذلك الذي رافق مهجري حلب بعد الخروج الأخير.
لعلّ الصمود الذي أبداه أهل غوطة دمشق كان الفارق الأهم، فالغوطة المحاصرة منذ أربع سنوات -وإن كان الحديث عن الخلافات بين فصائلها قد ظهر إلى السطح غير مرة- استطاعت أن تُوجع نظام الأسد في المكان الأكثر أهمية بالنسبة له. بالإضافة إلى استنزاف عدد كبير من مخزونه العسكري البشري والمادي. وأعطت أنموذجاً في المقاومة سيضعف -وربما سينتهي- إن تلاقى مصير الغوطة بمصير حلب، وبذلك ستنتهي تلك المتلازمة التي بدأت مع بداية 2011، بين الثورة والحرية والنصر، إلى متلازمة أخرى يعيشها معظمنا في داخله ويخاف أن يصدقها، وهي ارتباط الثورة بالموت والتهجير والخسارة.
إن تسرّب حالة العجز واليأس إلى فكر الثورة هو ما سعى نظام الأسد وحلفاؤه إلى تصديره، فهو يعرف في قرارة نفسه أن الثورة انتصرت منذ المظاهرة الأولى والشعارات البكر. ذلك أن الناس تتموضع دائماً في الأماكن الجديدة، وتهدم بعبثية ما تركته خلفها من حالة ركون. فلن ينجح الأسد بإعادة الزمن إلى ما قبل 2011، كما لن يفلح العالم بإقناع شعوبه بأن موقفه من الثورة السورية كان منصفاً. وبذلك ستسقط القيم الإنسانية بممثليها حين يكون التعبير عن ما يحدث في الغوطة من قبل منظمة اليونيسيف بياناً فارغاً إذ “ليس هناك كلمات بإمكانها أن تنصف الأطفال القتلى وأمهاتهم وآباءهم وأحباءهم”.
في الغوطة اليوم بقيّة حياة، حتى وإن نشأ أطفالها على أصوات المدافع وصفارات الإنذار، ولكن “المكان ما زال في مكانه”. وهو إن صح التعبير شاهد آخر للسؤال عن “سيادة قانون الغاب والأرض المحروقة”، في مقابل الحق وبقايا العشب الأخضر الذي أصبح طعاماً للمحاصرين في كثير من الأحيان. وهذا يحيلنا إلى سؤال آخر: ما الشعور الذي رافق مهجري حلب خلال سنة وبعض السنة من تهجيرهم؟
معظم الذين تكلّموا عن حياتهم بعد التهجير كانوا يفضلون لو أنهم بقوا في مكانهم رغم القصف والموت والحصار، بعضهم كان ليفضل دخول قوات الأسد “على جثته”، قسم آخر منهم انعدمت عنده القدرة على متابعة أخبار الثورة وتحولت حياته إلى حالة عبثية مليئة باللامبالاة، أما القسم الأكبر فقد كان يبحث عن طريقة لتبرير ذنب خروجه.
يحاول المهجرون إيصال رسالة إلى أهلهم في الغوطة مفادها أن البقاء في أماكنهم، رغم كل شيء، هو الحل الوحيد لبقائهم على قيد الحياة. ولكن حصيلة (400شهيد وأضعافهم من الجرحى) خلال اليومين الماضيين، تجعل من كتابة الرسالة وإيصالها أمر مستحيل، كما تقوم الرسائل البسيطة -التي تتناقلها وسائل التواصل الاجتماعي عن حياة يومية يعيشها الناس في ظل القصف الممنهج والكثيف في الغوطة ومقاطع الفيديو المنتشرة عن حجم الألم- بدور الأفيون لمصطلحات كـ( الصبر والصمود والمقاومة)، لتضج في الرأس مصطلحات أخرى كـ( النجاة والحياة والهرب) بصفتها غريزة إنسانية للبقاء.
نحمّل اليوم أهلنا في الغوطة ذلك الهمّ الذي يعترينا بصفته الأمل المتبقي لبقاء جذوة الثورة وانتصارها، مع يقيننا بأن من حقهم اختيار ما سيحدث، دون لوم أو عتب أو اتهامات.
مصطفى أبوشمس.