أملك (أنا ابن الثورة) مشاعر محايدة لما يحدث اليوم أو انتظار ما سيحدث في عفرين. هكذا تبدأ القصة عندما لا أستطيع كإنسان التعبير عن ما يجول في خاطري بلغة بسيطة، لغة مفهومة أبحث فيها عبر الانترنيت عن معنى الإرهاب “حكم العَسْف والجَوْر والتَّهديد”. أضيق ذرعاً بالمعنى الذي يحتاج إلى الكثير من المبالغة والكذب والخوف والضياع. أتابع على نشرات الأخبار معظم الآراء والتحليلات السياسية. أقف في المكان الذي يشغله لاجئ من الرقة أو نازح من تل رفعت، أمتلأ بالغضب. أتساءل عن تلك الكيفية التي يتحول بها “أصحاب قضية” ولا أعني هنا “قسد” وحدها، بل الكثير من الفصائل في مناطق المعارضة إلى محتلين جدد، عندما يصبح السجين سجاناً يفتش في ذاكرته عن صورة نمطية يحاكي بها سجانه، يفكر في نقط الضعف التي كان يجهلها ليمارسها هو بكل هذا الفرح والتشفي، أبرر – خطأ – فرح من ينام على هدس انتظار المعركة. هو يحلم بالخروج من خيمته، بالخلاص من وجوه أصحاب البيوت الكالحة، ومئات الدولارات المطلوبة، بالعودة حين تصبح حقاً مغتصباً بعيد المنال.
الغريب أن لا يكون أصحاب القضية في الصف المحق، والأكثر دهشة أن لا يثور من عاش الظلم لسنوات على جلاديه، حين تكون الفرصة سانحة والطريق مفتوحاً.
ولأن الخيال لا يحتاج إلى هوية شخصية، ولا يفيش على الحواجز، ولا يملك نقوداً فليس عليه أن يدفع 2000 ليرة سورية كرسم عبور بين شمال حلب وغربها، وجدت نفسي في الباسوطة أو ربما في كفرجنة، البوصلة هناك لا تحتاج إلى الدقة، لكن سمت المعركة هو من يحتاج على التفسير، فهل ستكون المعركة موجهة لاستعادة القرى العربية التي سيطرت عليها قوات سوريا الديمقراطية مخلفة عشرات القتلى وأكثر من 200 ألف نازح، أم ستكون محاربة (للإرهاب) بمعناه الفضفاض الذي تسوقه الحكومة التركية اليوم كمبرر لتدخلها العسكري، وبالتالي ستنتقل المعركة شئنا أم أبينا إلى عفرين وقراها، تاركة رغبة بالانتقام ستفرض منطقها على المنطقة. الانقسام الذي بدأت أولى بوادره بالظهور على صفحات التواصل الاجتماعي، بين مؤيد ومعارض للدخول إلى المدينة، دون التفريق بين الحق والإنسانية.
فلّاحون ينتظرون المطر بأياد متعبة والكثير من التبغ والشوارب المصفرة، النساء المتعبة التي تبدأ حياتها بالعمل إلى أن ترقد بسلام، الأطفال الذين يفرحون بحصان من الخشب والكبة بعدس وشجر الزيتون. ما عدا ذلك كل الصور المتراكمة هي زائدة عن الحاجة، صور الأعلام الجديدة والحكام الجدد والإيديولوجيات وصراع القوميات واللغة، كلها لا تعني شيئاً في اللغة البسيطة.
تلك البلاد متشابهة حد التطابق حتى لو اختلفت الجغرافيا، آلاف النازحين من ريف حلب الجنوبي يبحثون عن خيمة، هم اعتادوا العيش في قبابهم الطينية، المكان ليس مهماً، المهم الابتعاد بذلك الجيل المأزوم نحو البداية، وإزالة غباش الحرب تجاه رؤيتهم للحياة، وتخفيف حدة الرعب الذي بات يسكن قلوبهم الصغيرة.
سبعون قذيفة سقطت على مواقع في عفرين يوم أمس بحسب أخبارهم، وصور لجنود قال حكام المدينة أنها للمعتدين، أظهرتهم بلباسهم الصيفي حين نحن في برد الشتاء وقساوته، لا يزرع الأمل كالزيتون، تلك حقيقة علينا أن نعيها، دون أن نبرر استهداف حكام عفرين مشفى للأمراض العقلية في اعزاز، تلك حرب مجنونة أيضاً، وعشرات القذائف الأخرى على المنطقة في استعجال لسطوة الحرب.
في الانتظار عفرين بمئات النازحين الجدد. بالكثير من الصور المفزعة التي ستتصدر وسائل الإعلام لفترة. تلك الشهية لسبق صحفي على جراحنا، وذلك التعظيم لدور الضحية الذي انجدل مع وجودنا العربي منذ زمن. شهر وربما أيام ويتراجع الخبر السوري ليحتل مكانه في المؤخرة، ويصبح الموت اعتياداً هناك، كما حدث في بلاد أخرى لا تبعد عن عفرين سوى دقائق قليلة.