في الجزء السابق من ملف “شباب الثورة، لماذا وماذا وكيف؟” تناول الكاتب مرحلة بشار الأسد وكيفية وصوله للسلطة والحراك السياسي العام لقوى المعارضة، ومن ثم التضييق عليه وانطلاق ديناميات جديدة للمقاومة المدنية في سوريا.
مظاهرات للكرد في مدينة القامشلي 2004 – المصدر: موقع مدار اليوم.
منذ عام 1999 وقبل وفاة حافظ الأسد بعام، كان هناك حراك لمجموعة من المثقفين السوريين لإنتاج طرق معارضة بديلة في ظل القمع الوحشي والمطلق للسياسة والعمل السياسي، ونشأت من عدة لقاءات لهؤلاء المثقفين، ومنهم ميشيل كيلو وعارف دليله ورياض سيف وغيرهم، جمعية أصدقاء المجتمع المدني لتتطور فيما بعد إلى لجان إحياء المجتمع المدني، الذي أعلن عن انطلاقه بوثيقة قام بتوقيعها ألف مثقف، وجاءت تحت اسم وثيقة الـ1000 وذلك في 14/4/2001، وكان التوجه للمجتمع المدني ضرورة لحاجات موضوعية وذاتية لدى المعارضة السورية، الحاجات الموضوعية، هي القدرة على ممارسة السياسة من خلال العمل المدني، وتخصيب الأرض المجتمعية السورية لتلك الممارسة والعمل على إحياء المجتمع المدني السوري المغيب بسبب مصادرة الحيز العام من قبل السلطة منذ الستينات، أما الحاجات الذاتية، فهي طرح فكرة إحياء المجتمع المدني على أنها فضاء مفتوح وأرضية جامعة لا تنحصر في إيديولوجية ما أو تُحتكَر من تنظيم أو توجه سياسي ما، وكانت الفكرة بذاتها جاذبة للعديد من الشباب السوري من طلاب الجامعات والأكاديميين من أبناء الطبقة المدينية الوسطى بشكل رئيسي، والمقصود هنا بالمدينية ليس فقط الذين يتحدرون في أصولهم من المدن، بل أولئك الذين انفطعوا للعيش في المدينة، ولم تعد تشكل الأرياف لهم سوى قبلة للزيارات، مما فكك قليلاً من تعقيد نمط العلاقات الأهلية، وخاصة طلاب جامعة دمشق الذين كانوا على تماس مباشر مع القوى والشخصيات المنضوية في لجان إحياء المجتمع المدني، وإضافة لتلك اللجان انتشرت كما ذكر الجزء السابق، المنتديات والصالونات السياسية الناتجة بشكل مباشر عن نشاط اللجان، وأولها كان منتدى الحوار الوطني الذي أقامه رياض سيف، إضافة للعديد من جمعيات حقوق الإنسان، التي انتشر أعضاؤها في مختلف المناطق السورية، مثل لجان الدفاع عن الحريات الديمقراطية وحقوق الانسان والمركز السوري للاعلام وحرية والتعبير، ومركز حقوق الانسان العربي والرابطة السورية لحقوق الانسان، واللجان الكردية ومركز دمشق والعديد من مراكز الدفاع عن حقوق المرأة والطفل، والتي عملت على توثيق الانتهاكات وقمع الحريات والمطالبة بالمعتقلين، ومن الجدير بالذكر أن سوريا قبل الثورة لم تكن هادئة تماماً كما سعى النظام لتصويرها، وأن نشاط النخب لم يلقَ استجابة من قبل الجمهور السوري عموماً، بل على العكس ورغم السلطة القمعية الشديدة، والتراث الوحشي المليء بالتهديد والتخويف، فإن رقعة المعارضين وبخاصة من الشباب باتت تتسع أكثر فأكثر، وقد جمعت لجان الدفاع عن الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان عام 2004، في ما سمته وثيقة المليون 6000 آلاف توقيع على وثيقة تطالب برفع حالة الطوارئ، وكانت الاعتصامات تتزايد في سوريا يوماً تلو يوم، كالاعتصامات أمام محكمة أمن الدولة العليا في عام 2001، والاعتصام أمام مجلس الوزراء في اليوم العالمي لحقوق الإنسان في كانون الأول 2003، ورُفعت فيه لافتات تطالب بإلغاء إعلان حالة الطوارئ، وإطلاق المعتقلين وعودة المنفيين، فضلاً عن المطالبة بمنح الجنسية للأكراد المجردين منها ومنحهم حقوقهم الثقافية، وكان سبقه اعتصام دعا له 11 حزباً كردياً أمام المجلس في الشهر العاشر من نفس العام، واعتصامات متتالية 2006، 2007، 2008، أمام القصر العدلي في دمشق، وكان هذا الحراك الذي لم ينشط فيه سوى بضعة آلاف، يعبر في حقيقته عن تغير في وعي المجتمع السوري، وعلاقة جديدة تنشأ مع السلطة تتجاسر شيئاً فشيئاً على جدار الخوف، فرغم الاعتقالات التي استمرت طيلة عقد بشار الأسد كان الحراك مستمراً مع ما عليه من تضييق.
اعتمد الحراك المدني بدرجة كبيرة على الشباب، الذي أبدى حماساً في الانخراط في معارضة السلطة، وقد وصلت حالات الانخراط تلك إلى مواجهات كانت قمتها الدامية في انتفاضة الأكراد في عام 2004، حيث كانت معظم هذه الاعتصامات تفض بالقوة والغاز المسيل للدموع والاعتقالات، ومنها فض اعتصام طلاب جامعة حلب مناصرة للعراق عام 2003 بالقوة، والذي أقامه مجموعة من الطلاب كان البعض منهم أعضاء في مكتب اتحاد الطلبة في ساحة كلية الطب، وتم فضه بالقوة ليلاً من قبل طلاب جامعيين بعثيين، يرافقهم عناصر أمنية بلباس مدني، رغم أن الاعتصام نفسه كان يتساوق مع توجهات السلطات حينها.
كان الحراك في سوريا موجه بعمومه ضد النظام، رغم اختلاف المناهل التي تعارض النظام، لكن اختلاف تلك المناهل، أحدث انشقاقات في داخل التنظيمات ذات الطابع السياسي لاختلاف في الإيديولوجيا، وتوزع “السلط الوهمية”، فبعد أن نجحت لجان إحياء المجتمع المدني في الوصول لإعلان دمشق، لم يصمد الإعلان ذي الطابع السياسي طويلاً كما هو عليه، وسرعان ما بدأت الانشقاقات.
يشكل الكرد الأقلية الأكبر من مكونات الشعب السوري، وتتراوح نسبة الكرد بين تقديرات أقلها 10 % وأكثرها 20 % من مجموع السوريين، وقد بدأت القضية الكردية منذ سقوط الدولة العثمانية، وبناء نماذج “فاشلة” من الدولة – الأمة تعتمد القومية في إيديولوجيا الدولة، ولم يتمكن الكرد من نيل دولتهم حسب مقررات مؤتمر الصلح في باريس، وتنامت تلك القضية في فترة الصعود القومي العربي في الخمسينات، مبنية على نضال مستمر لمدة ثلاثين عاماً في مواجهة القومية التركية، ونشطت أحزاب سياسية كردية عديدة في سوريا، نشأت عن انشقاقات متكررة عن الحزب الديمقراطي الكردي السوري، الذي تأسس في الخمسينات، ولاقى السياسيون الكرد ما لاقاه السياسيون العرب في سوريا من إقصاء وملاحقة وتهميش واستخدام، وفي عهد بشار الأسد، ونتيجة لتصاعد المشاعر القومية بعد القضاء على صدام حسين في العراق ونشوء إقليم كردستان، وبسبب مشاجرات أهلية بين كرد وعرب إثر مباراة كرة قدم محملة بمشاعر متناقضة لدى الطرفين تجاه غزو العراق 2003، انطلقت في آذار 2004 الانتفاضة الكردية التي شارك فيها العديد من نشطاء الشباب الكرد، ولعبت لجان إحياء المجتمع المدني دوراً مهماً في إطفاء نار فتنة كان من الممكن أن تستمر بين العرب والكرد، وحاول الشباب الكرد الاستمرار في نضالهم لنيل حقوقهم، وبدأت البوصلة تتجه أكثر فأكثر نحو النظام، لكن الأحزاب السياسية الكردية بدأت – وقد يكون نتيجة الحفاظ على السلم الأهلي واتباع الإصلاح التدريجي – بتخفيض سقف المواجهة، وصدرت بيانات عنها تطالب الشباب الكردي بعدم المساس بالعلم السوري، و”شخص رئيس الجمهورية”، واقتصرت الانتفاضة على المطالب الخاصة بالقضية الكردية، مما أدى مترافقاً مع الاستقطاب القومي الشديد الذي فرضه غزو العراق إلى عدم تحول الانتفاضة الكردية لانتفاضة شاملة لجميع السوريين، وقد صعدت الانتفاضة الشعور القومي لدى الشباب الكرد، وفي نفس الوقت زادتهم رغبة في الانخراط في الحراك السياسي والمجتمعي، ورغم أن الانتفاضة لم تحقق إنجازات تذكر على مستوى حقوق الكرد في سوريا، لكنها فرضت القضية الكردية قضية وطنية لدى المعارضة تبناها إعلان دمشق في العام اللاحق للانتفاضة، ولم تذكرها سابقاً الأحزاب الغير كردية باستثناء كراس في منتصف السبعينات صدر عن العمل الشيوعي، حول حق الأكراد في تقرير مصيرهم.
كل هذا الحراك في ظل دولة شمولية دخلت مرحلة الاستبداد المتآكل لم يعط أكله، لإن الإصلاح والتطوير الذي تبنته السلطات السورية، لم يكن معنياً بما يراه الشعب السوري مناسباً، وإنما ما يراه هؤلاء “المصلحون” مناسباً، ويكفي ردات الفعل التي كانت تواجه الاعتصامات التي لم تتجاوز المئات، وحملات الاعتقالات غير المبررة في مواجهة معارضة لم تبتعد أكثر من باب النقاش، وأكدت على الإصلاح التدريجي، والتعامل الفوقي مع الشعب السوري ومطالبه، ومنذ عام 2001 وفي مقابلة أجراها الديكتاتور مع جريدة الشرق الأوسط، تحدث موجهاً تحذيراته لحركة المجتمع المدني (هذا المصطلح الأمريكي حسب تصريح وزير الإعلام عدنان عمران حينها) قائلاً: „عندما تكون نتائج أي فعل تمس الاستقرار على مستوى الوطن، فهناك احتمالان: احتمال أن يكون الفاعل عميلاً يخرب لصالح دولة ما أو أن يكون إنساناً جاهلاً ويخرب من دون قصد. النتيجة في كلتا الحالتين أن خدمة قد تم تقديمها لأعداء البلاد، وبالتالي يتم التعامل مع الحالتين بطريقة مماثلة بغض النظر عن نواياهم أو دوافعهم”، ولم يكن من مجلس الوزراء إلا أن رفض حتى استلام مذكرة من المعتصمين أمامه من القوى الديمقراطية عام 2003، وواجهت المخابرات والجيش السوري الانتفاضة الكردية بدموية، ولم يمنحوا الكرد أي حقوق، بل خيروهم بين سلامتهم وبين الانتفاضة بعد أن تمكنوا من عزل الانتفاضة عن باقي مكونات المجتمع السوري.
بقي أن نقول أن هناك شريحة واسعة من شباب الطبقة الوسطى وبخاصة الأكاديمية، قد تأثرت بشكل كبير بالحراك السياسي والمدني خلال عقد بشار الأسد، وتشكل لديها وعي بضرورة قيام الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، وأنه لا بد من التغيير الذي انتظروا أي فرصة مواتية للنضال من أجله.
في الجزء القادم سيتناول الملف توظيف نظام بشار الأسد للتيارات الدينية في معاركه الخارجية، وكذلك تأثير اللبرلة الاقتصادية التي انطلق فيها، وتأثيرها على الشباب السوري.
رعد اطلي.