لم يعرف خالد العبد الله (40عاماً)، مصدر الرائحة الكريهة التي تنتشر عند هبوب رياح غربية نحو قريته تركمان بارح – 50كم شمال حلب- وعزا تلك الرائحة لحفر الصرف الصحي المكشوفة المنتشرة في القرية، إلّا أنه وبعد متابعة الأمر مع أهالي القرية، تبين أن مصدر الرائحة “الحراقات” وهي “آلات لتكرير النفط يدوياً”، المنتشرة في قرية دابق القريبة -35كم شمال شرق حلب-، والتي تسبب نتيجة لعملية التكرير انبعاثاً لغازات ذات رائحة كريهة، أدت إلى الكثير من حالات ضيق النفس وأجبرت معظم الأهالي على البقاء في بيوتهم، تجنباً للتعرض لها.
زكريا الأحمد (45 عاماً) من أهالي تركمان بارح، قال “إن هذه الروائح الكريهة تأتي بشكل متقطع، وعند استنشاقها أشعر بضيق في النفس وتهاجمني نوبة حادة من الربو الذي أعاني منه منذ سنوات، وهذا ما أخر حالتي الصحية، لا أعرف الغازات المنبعثة، ولكن أشعر أنها ساهمت في زيادة هجمات الربو التي أعاني منها”.
تنتشر الحراقات في معظم المناطق المحررة من دير الزور وحتى إدلب مروراً بالريف الحلبي، الذي يمثل المكان الأوسع لانتشار مثل هذه المصافي اليدوية لتكرير النفط، بلغت أكثر من 1000 حراقاً مختلف الجودة، وتتدرج من الحراقات العادية إلى الكهربائية وبسعات مختلفة، وتشترك جميعها بأضرار تهدد حياة الإنسان والنبات والتربة والمياه في المنطقة.
مرحلة التبريد من خلال مرور الأنابيب ضمن المياه – فوكس حلب.
آلية التكرير في الحراقات
تعتمد الحراقات على الفيول، في انتاج الوقود اللازم في المناطق المحررة (بنزين – مازوت – كاز- غاز – فحم حجري)، وهناك ثلاثة أنواع من الفيول المستخدم في سوريا، والذي يعتمد عليه أصحاب الحراقات في انتاجهم:
فيول الرويس، ويعتبر المصدر الرئيس لمادة المازوت، الذي يتصف برائحة كريهة، كما أنه بنيته السائلة، تتجمد عند التعرض لدرجات حرارة منخفضة.
فيول الرميلان، الذي يستخدم لإنتاج البنزين والكاز والمازوت، ويتصف بجودته وحفاظه على بنيته السائلة، في كافة درجات الحرارة.
فيول الجورة، الذي يصدر إلى المناطق الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية، ويستخرج منه البنزين والكاز والمازوت الأصفر، أو ما يعرف بين أصحاب المهنة ب “روح المازوت”، ثم يصدر إلى مناطق المعارضة، عبر صهاريج محكمة الإغلاق بدرجة حرارة 300 درجة مئوية، ليتم تكريره مباشرة واستخراج المازوت العسلي والأحمر منه، دون أن يتعرض للهواء الذي سيؤدي مباشرة إلى تجمده داخل الصهريج.
يوضع الفيول في الحراقات الكبيرة، ضمن صهاريج تتسع إلى 300 برميلاً من الفيول الخام، التي تتعرض عبر “الشوديرات” لدرجة حرارة عالية نتيجة الاحتراق، الذي يستخدم الفيول في إشعاله حتى انطلاق الغاز الناتج عن الاحتراق، والذي يستخدم عبر جهاز “فايغون” ليقوم هو نفسه بعمليه الاحتراق اللازمة للتكرير، أما الغاز الزائد فيتم نقله عبر “خراطيم” إلى الطرف المقابل للحراق ليتم إحراقه.
مرحلة إحراق الغازات الزائدة خلال عملية التكرير – فوكس حلب.
يحتاج الصهريج “300برميلاً” إلى 40 ساعة متواصلة من التعرض للحرارة حتى اكتمال عملية التكرير، التي ينتج عنها 240 برميلاً من كافة المواد، ثم يحتاج إلى 24 ساعة من التبريد لتكرار عملية التكرير التي تحتاج إلى 13 ساعة، من أجل تعبئة وتفريغ الفيول ومخلفاته.
الغاز الناتج عن عملية الاحتراق يشكل بعد عملية تبريده في خراطيم بطول 35 متراً، وتمريره ببركة ماء بارد، المواد الناتجة التي تحددها درجات الحرارة:
من 70-160 درجة تنتج البنزين
من 160-260 تنتج الكاز
من 260-350 تنتج المازوت
أما غاز البنزين فينتج عند درجة حرارة من 50-120، وغاز المازوت عند درجة الحرارة من 300-350، أما المواد الصلبة المتبقية فينتج منها الفحم الحجري اللازم لعملية التدفئة.
ويبلغ سعر برميل الفيول الخام 26000 ليرة سورية، بينما سعر برميل المازوت الأصفر 37000 والأحمر 35000 ليرة سورية، وتعتبر الحراقات قنبلة موقوتة معرضة للانفجار في كل الأوقات، ولذلك يتم استخدام الصهاريج بسماكة 1.5سم وتفقدها من الصدأ الذي يضعفها ويجعلها عرضة للانفجار في أي وقت.
مرحلة استخراج الوقود في نهاية عملية التكرير – فوكس حلب.
الغازات الناتجة عن عملية التكرير
يعتبر غاز الكبريت السام، أخطر الغازات المنتشرة عن عملية التكرير، وهو غاز عديم اللون والرائحة، يعتبر أثقل من الهواء، وهذا ما يجعل كثافته في المناطق المنخفضة بشكل أعلى، بالإضافة إلى ذوبانه في التربة وفي قطرات الماء، ليكون المطر الحامضي الذي يؤثر على التربة والمزروعات، كما يثير أنسجة العين المكشوفة والأنف والحلق والرئة، وعند امتصاصه من قبل الجسم بكميات كبيرة يفسد الجهاز العصبي ويشل نظام التنفس، ويؤدي إلى ذبحة قلبية أو إلى نوبات من الصرع والاختلاج.
كما يعتبر غاز الهيدروجين، أحد أخطر الغازات الناتجة عن عملية التكرير، وذلك بسبب تفاعله الشديد مع غاز الكلور والفلور الناتجين عن عملية التكرير ذاتها، ما يشكل أحماض الهيدروهاليك المضرة للرئة والأنسجة.
وغاز الميتان، الذي يؤدي إلى الاختناق حتى الموت بالإضافة إلى ثاني أكسيد الكربون.
وعند التوجه إلى مستوصف قرية دابق في الريف الشرقي، تبين أن 26 حالة شهرياً تراجع المستوصف بأعراض تنفسية وحالات من الحساسية الأنفية ونوبات ربوية، يعزي طبيب المستوصف أسبابها للغازات الناتجة عن عملية التكرير اليدوي في القرية، ويقول الطبيب “تحتوي هذه الغازات الناجمة عن عملية التكرير على الكثير من المواد الضارة، التي تؤدي إلى تلوث الهواء بغازات تزيد من هجمات الربو وضيق النفس والتحسس الأنفي والجلدي وسرطان الجلد والرئة، وتشوهات الأجنة والتهاب ملتحمة العين والسعال المزمن”، ويحدد الطبيب الفئات العمرية الأكثر تضرراً ب “الأطفال ومرضى الربو والقلب والصدر والنساء الحوامل”.
ترخيص الحراقات على مبدأ “الضرورات تبيح المحظورات”
أحمد حميدي، رئيس قسم الخدمات في مجلس دابق المحلي، قال لفوكس حلب “تم ترخيص الحراقات لمدة ستة أشهر في القرية، وذلك لتأمين الوقود اللازم، ففي حال تم منعها سيتضاعف ثمن الوقود، هذا إن وجد”، ويكمل حميدي “نتيجة للشكاوى المقدمة من قبل المواطنين وبعد الإطلاع عليها، فرض المجلس على أصحاب الحراقات تركيب جهاز “الفايغون” الذي يخفف من آثار الغازات نتيجة لحرقها، كما تم نقل مكان الحراقات إلى الجهة الشمالية للقرية، عكس اتجاه الرياح”، ويقدم أصحاب الحراقات المازوت اللازم لعملية ضخ المياه في القرية للمجلس المحلي مجاناً.
نقل هذه الحراقات إلى الجهة الشمالية من القرية، حول الضرر إلى القرى الواقعة في الجهة الغربية من قرية دابق، كتركمان بارح، التي قامت برفع دعوى ضد هذه الحراقات في محكمة أخترين، عند التوجه نحو محكمة، رفض قاضي المحكمة الجزائية إطلاعنا على سير التحقيق ريثما يتم التواصل مع الخبراء والأطباء، لاستصدار قرار يخص هذه الحراقات.
بين المجالس المحلية والمحاكم والفصائل العسكرية التي تحمي وتشرع وجود هذه الحراقات، يعاني معظم سكان المناطق المحررة من خطر الحراقات والغازات المنبعثة عنها، والتي قد تظهر أعراضها جلية بعد فترة من الزمن، فهل يعتبر الوقود أهم من حياة الإنسان، ناهيك عن تضرر الأراضي الزراعية والمياه، والتي ستتسبب إن عاجلاً أم آجلاً بكارثة لا يمكن احتواؤها.