حاول الجزء السابق من هذا الملف أن يلقي الضوء على الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي عايشها شباب الثورة في مراحل سابقة من حياتهم في حقبة سيطرة حافظ الأسد منذ فترة الثمانينات حتى موته، في حين سيحاول هذا الجزء ومجموعة من الأجزاء بعده التركيز على عقد سلطة بشار الأسد من بداية القرن وحتى بداية الثورة.
لبرلة الاستبداد!!!
لم يكن بشار الأسد مرشح أبيه لتسلم السلطة في سوريا من بعده، وإنما كان باسل الأخ الأكبر له ذلك المرشح، كان رائداً مظلياً مهندساً فارساً حسب ما كانت تروج له السلطة في المجتمع السوري، وكان أيضاً محارباُ للفساد، وبشكل خاص عمليات تهريب المخدرات والسلاح وغيرها التي كان وما زال يتزعمها في سوريا أبناء عمومة الأسد، ولكنه توفي في شباط 1993 إثر حادث سيارة كما تم الإعلان عنه، وجرى في مختلف الأوساط السورية حديث عن أن الحادث كان مدبراً وليس صدفة، وتوجهت أصابع الاتهام لرفعت الأسد الأخ المنبوذ لحافظ الأسد المقيم في فرنسا، وبعد موت باسل الأسد تم استدعاء بشار الذي كان يدرس طب العيون في بريطانيا على عجل، وتسلم القرار الجديد، بأنه “لن يصبح طبيباً وإنما رئيساً”.
لم يكن من الممكن الترويج لبشار الأسد بنفس الطريقة التي تم بها الترويج لأخيه باسل، على أنه الشاب القوي المتمرس “الفارس”، تلك الشخصية التي تحاول أن تصل لشخصية الأسد الأب المحاربة، التي تتحدث عن وضع السلطة في يد رجل قوي. لم يكن ذلك ممكناً لأن بشار لم يكن يملك الملامح النفسية والجسدية التي امتلكها أخوه، ولذلك تبنت الدعاية الجديدة فكرة “الأمير الطيب” الهارب من القصر دائماً والمستمتع في السير في الشوارع بين العامة من شعبه.
بدأت الدعاية منذ اللحظة الأولى لدفن باسل الأسد، حيث خيمت عبارة واحدة على كل جدران مؤسسات الدولة العسكرية والمدنية “حافظ قائدنا، باسل قدوتنا، بشار أملنا”. إذاً توجه الأمل للخليفة الجديد، لكنه لم يكن يمتطي حصاناً ببزته العسكرية ونظاراته الشمسية وملامحه الجادة، وإنما كنزة قطنية بيضاء في وسط المشجعين في إحدى المباريات الرياضية، أو يُرصَد فجأة في أحد الأسواق العامة يمشي ويحيّي الناس بمحبة، لم يكن يخاطب الشعب على أنه راعيهم، وإنما كواحد منهم يدافع عن مصالحهم، ولم يستعر من شخصية باسل سوى فكرة الاستمرار في محاربة الفساد، وأضاف إليها بطولة الإصلاح والتطوير، طبيبٌ قادم من أوروبا ويحمل في يده ملفاً عن أساليب ظهور القادة السياسيين الأوروبيين بين العامة، وفي يده الأخرى حاسوباً.
جرى التعرف على بشار الأسد رئيساً للجمهورية من قبل شباب الثورة للمرة الأولى عام 2000، كان معظمهم في المرحلة الثانوية ومادون، يرون من خلال شاشة التلفاز خطاب بشار من منبر مجلس الشعب، جاء الخطاب عقلانياً وهادئاً وودياً، تناسب مع الدعاية للرئيس الطبيب، تحدث عن إصرار الأسد على عملية الإصلاح والتطوير على كافة المستويات بما فيها السياسي، وعن أن تلك الأمور لا تحدث في ليلة وضحاها، وأن الأسد الجديد لا يملك عصا سحرية ليغير الأمور بسرعة كبيرة، وأكد على استثماره في الدعاية له سابقاً عندما وعد الشعب بأنه سيراه الأخ والصديق الذي “عرفوه دائماَ”. كان الشباب السوري كما هو الشعب السوري عموماً ليس مصدِّقاً بقدر ما هو مضطر أو راغب في أن يصدِّق ما جاء في الخطاب.
عندما تسلم بشار الأسد السلطة أبدى نية في فتح صفحة جديدة في شكل النظام السوري، صفحة عنوانها اللبرلة على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي، والتي سنحاول المرور على مظاهرها وكيف أدت إلى تفكك النظام وتآكله، ومن ثم ذهابه بالمجتمع إلى حافة الثورة، ولم تكن اللبرلة هي السبب في الثورة، وإنما الطريقة التي تعامل بها الأسد مع إضفاء الليبرالية صفة لحكمه. قرر الأسد أن يلبس البلاد ثوباً ليبراليا ولكن ضمن منظومة حكم العائلة الاستبدادي، شيء أشبه برغبة تطوير شركة ما مملوكة لشخص لا يقبل أن يؤدي تطويرها لاستبعاده من ملكيته الأبدية حسب التصور القائم بالبيعة مدى الحياة أو الحكم للأبد الموروث بطبيعة الحال من والده.
سياسياً بدأت حقبة الأسد بخطابه الافتتاحي الذي تحدث عن قوانين عدة للأحزاب والإعلام ورفع حالة الطوارئ، وبالفعل تم فتح مجال للمعارضة للتحرك ضمن نطاق محدود لم يكن متوفراً سابقاً، وبدأت الصالونات السياسية ترى النور وتتحول لمراكز تجتمع فيها المعارضة، وسُمِح لبعض أحزاب كانت موجودة سابقاً أو تم تشكيلها حديثاً بالتحرك دون ترخيص ولكن تحت عيون المخابرات السورية، مثل القومي السوري، كل ذلك ضمن سياسة “غض النظر”، إلا أن الأمر لم يدم طويلاً، حيث تم إغلاق كافة المنتديات السياسية قبل أن ينتهي 2001 باستثناء صالون الأتاسي الذي استمر فترة أطول حتى الشهر السابع من عام 2005، حيث تم إغلاقه بعد شهر من انعقاد المؤتمر العاشر للحزب الذي أوصى بإصدار قانون للأحزاب وإعادة النظر بقانون الانتخابات لمجلس الشعب ورفع حالة الطوارئ، بتعبير آخر جاء البيان الختامي للمؤتمر مكرراً لما قاله الأسد قبل خمس سنوات في خطابه، دون أي إضافة، ورغم تأكيد الأسد أنه لا يحمل عصا سحرية في جعبته لتغيير الأمور بشكل سريع، لكنه فعلياً لم يكن يحمل بجعبته شيئاً، لا عصا ولاخطة إصلاح، طالما أن تلك الخطة من الممكن لها أن تؤثر على استقرار النظام ولو قيد شعرة.
جاءت وفاة الأسد الأب بمثابة انطلاقة جديدة لحراك اجتماعي سياسي في سوريا، زاد من تفاعلاته مرحلة “غض النظر” القصيرة التي تمت محاربتها بشدة بالدرجة الأولى من الحرس القديم وعلى رأسه عبد الحليم خدام الذي انشق لاحقاً عن ركب الأسد، وسمح ذلك التفاعل للقاء بين نخب المعارضة السياسية التقليلدية والشباب السوري من أبناء الطبقة الوسطى من المتعلمين بشكل أساسي، ورغم أن حملة “الإجراءات التنظيمية ” التي حاربت معظم الحراك الاجتماعي والسياسي في 2001، وتدرجت حتى عام 2005، إلا أن الحراك استمر، وما عاد من الممكن إيقافه. جاء الرد من المعارضة السورية مباشرة بعد المؤتمر القطري العاشر للحزب، حيث تم في تشرين الأول من نفس العام توقيع وثيقة إعلان دمشق من قبل مجموعة من أحزاب المعارضة المنتمية لأطياف مختلفة قومية ويسارية وإسلامية، ونصت الوثيقة على تبني الديمقراطية في الحكم وإطلاق الحريات العامة والمجتمع المدني من خلال تحرير الاتحادات والنقابات والمنظمات الشعبية، وأُدرجت القضية الكردية في سوريا على أنها قضية وطنية، ورغم أن الوثيقة أكدت على رفض التغيير القادم من الخارج لتدفع عنها تهم التعامل مع قوى خارجية لإسقاط النظام، متأثرة بما حدث في العراق، وأنها طالبت بالتغيير السلمي المتدرج، إلا أنها كانت تصعيدا واضحا من قبل القوى السياسية السورية المعارضة ضد النظام، وكذلك دليلاً على تغير في الخطاب والأداء السياسي للمعارضة السورية من خلال الاتفاق على الديمقراطية أو من خلال الاتفاق بحد ذاته بين قوى سورية معارضة مختلفة المرجعيات والإيديولوجيات على صياغة وثيقة واحدة، ولم يأخذ الأمر وقتاً طويلاً حتى تم ملاحقة الموقعين على إعلان دمشق من المتواجدين في سوريا، وزجهم بين 2005 و2007 جميعهم تقريباً في سجن صدينايا.
سيتناول الجزء القادم من الملف التجارب الموازية لإعلان دمشق مثل لجان إحياء المجتمع المدني، وانشقاقات المعارضة حتى 2011 ، ومدى تأثير الحراك السياسي الاجتماعي المدني على فئة شباب الثورة، وأي شريحة من هؤلاء الشباب قد تأثرت بشكل مباشر بالتجربة المدنية في سوريا خلال مرحلة بشار الأسد.
رعد أطلي