للمرأة دورها الفني والحضاري في المجتمع علاوة على الأدوار التربوية والتعليمية والأسرية، جسدتها هذه المرة السيدة ثريا محمد قادمة من مدينتها الرقة منذ ثمانية أشهر وهي تحمل على ذراعيها أطفالها الأربعة في رحلة الهرب من تنظيم الدولة عبر مياه الفرات، لتصل إلى مدينة منبج، وليحط بها المقام بعد رحلة تهريب أخرى في قرية تركمان بارح، حاملة حلمها في تطوير المرأة وتعليمها وتنمية مواهبها وقدراتها الإبداعية، لتشكل مع مجموعة من المدرسات والنساء صاحبات المهن اليدوية داراً لإبداع وتعليم المرأة في القرية ضمت أكثر من 400 امرأة في مختلف المجالات، استطعن أن يقمن بمعرضهن الأول في التاسع من الشهر الحالي ضم العديد من الأعمال اليدوية مثل (المشغولات الصوفية، خياطة ثياب الأطفال، الرسم، المجسمات الكرتونية، صناعة الزهور البلاستيكية، ومشغولات الخرز،….)، بعد ثلاثة أشهر من الدورات التدريبية لصقل مهاراتهن، وبجهود شخصية ومساعدة طفيفة من المجلس المحلي للقرية، يأملن في إنشاء رابطة نسائية، تمكنهن من مزاولة المهنة وتصريف هذه المنتجات، لإعالة أسرهن في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة وغياب الزوج والمعيل في كثير من الأحيان.
الصورة من المعرض الذي أقيم في قرية تركمان بارح – تصوير: ابراهيم حسن.
وجدت السيدة ثريا محمد الهادي مديرة مشروع مركز إبداع وتعليم المرأة ضالتها في قرية تركمان بارح أثناء بحثها عن مكان لتنفيذ مشروعها الذي يعنى بالمرأة وصقل مواهبها، وخاصة في مجال محو الأمية المنتشرة بكثرة في الريف الشرقي لمدينة حلب، وكانت الحاجة الماسة لذلك فبدأت مع مجموعة من المدرسات تطبيق فكرتها العملية بافتتاح مركز لمحو الأمية لاقى استجابة سريعة فمنذ اليوم الأول ” سجلت 50 امرأة في دورة محو الأمية ليتضاعف العدد في اليوم الثاني إلى 150 امرأة من مختلف الأعمار” لتنتقل بعدها ونظراً للإقبال الكبير إلى افتتاح دورة “لتعليم القرآن” وتتدرج في افتتاح أقسام جديدة بعد دراسة طبيعة الاحتياجات في المنطقة كان آخرها دورة “تعليم اللغة التركية” على حد قولها.
يضم المركز في أقسامه السبعة “قرآن، خياطة، تمريض، لغة تركية، العناية بمظهر المرأة- كوافير- محو أمية، والدعم النفسي” أكثر من 400 امرأة من بلدة تركمان بارح والقرى المحيطة بها، كقرية غرور والعزيزية وسوسنباط وتل عار، وتقام هذه الدورات في مسجد القرية ويحتوي على ست غرف بالإضافة إلى خمس حلقات تعليمية داخل المسجد ويضم أكثر من ثلاثين مدرسة ومدربة وإدارية.
“كانت حياتي سابقاً كالأعمى” تقول السيدة الخمسينية أم عامر التي تدرس في دورة محو الأمية في مركز ابداع المرأة، لتكمل “أتعلم الآن الأحرف، صار باستطاعتي تهجئة الكلمات، سابقاً كنت أعرف بعض الأحرف من خلال أطفالي، أما اليوم فإني أعمل على تعلم القراءة، فليس هناك عمر للتعلم” لتنهي حديثها بأن تعلم القراءة والكتابة “دين ودنيا”، كتعبير عن الحاجة الماسة لها.
الصورة لأحدى سيدات الدار – تصوير: ابراهيم.
أما فاطمة إبراهيم 48 سنة فهي تواظب منذ ثلاثة أشهر على دورة “تعليم القرآن وتجويده”، وتشعر على حد قولها “بالسعادة والفائدة الكبيرة، بعد المعلومات الجديدة التي أزاحت كثيراً من المعلومات الخاطئة القديمة والأفكار التي عششت في أذهان المجتمع”، وترى المشرفة على تعليم القرآن ومحو الأمية الآنسة آلاء أن “السبب في هذه المعلومات الخاطئة هو إهمال مادة التربية الإسلامية سابقاً في المدارس، بالإضافة إلى العادات المغلوطة والجهل، وأفكار تنظيم الدولة في الآونة الأخيرة” وعن دورة تعليم القرآن تقول المشرفة ” نحاول تسوية الأمر من خلال تعليم النساء دروساً في محو الأمية وقراءة القرآن والتجويد والسيرة والفقه، وتلتزم بالدورة أكثر من 100 امرأة من مختلف الأعمار”
الآنسة نسيبة مدربة التمريض في المركز تحدثت عن الإقبال الكبير على دورة الإسعافات الأولية حيث بلغ عدد المستفيدات من الدورة الممتدة لثلاثة اشهر، أكثر من 200 امرأة، نظراً “لأهميتها في الحياة العامة، فمعظم النساء أمهات يعتنين بتربية أطفالهن، وبحاجة للمعلومات الأولية عن المبادئ الإسعافية الأساسية، وخاصة ما يخص العلامات الحيوية وطريقة الحقن وقياس الضغط وتعليق السيروم”، وتقدم الدورة على حد قول نسيبة معلومات نظرية ثم تتبعها بمعلومات عملية ضمن الأدوات البسيطة التي يملكها المركز، والتي زودهم بها مستوصف القرية.
من جانبها قالت شيماء الأحمد 21 عاماً إحدى المستفيدات من دورة الإسعافات الأولية ” بعد ثلاثة أشهر من الدورة، بات باستطاعتي معرفة العلامات الحيوية لأمي التي تعاني من تأرجح في الضغط، من خلال النظر في وجهها ودون أن أقيس ضغطها” وترى شيماء “أن دورة الإسعافات الأولية حاجة ماسة لكل فتاة، خاصة في ظل الظروف التي نعيشها، من قلة العيادات والأطباء والمشافي، وصعوبة الوصول إليها، وعلى كل امرأة أن تمتلك خبرة معينة وخاصة لقياس الحراة والنبض والضغط وبعض الإسعافات الأولية”.
تحاول خمسين طالبة في مركز إبداع وتعليم المرأة تعلم اللغة التركية، بعد استحداث دورة جديدة لتعليمها في المركز، وتقول الآنسة زينب مشو مدرسة اللغة التركية.
“أعلمهن الأحرف، هناك بعض الصعوبة في الأحرف الصوتية، ولكنهن تجاوزن ذلك، هناك تحسن كبير، ورغبة عظيمة لديهن بالتعلم، وسنبدأ بالقراءة والكتابة في الأسبوع المقبل”.
تنطلق السيدة ريتاج مدربة تصفيف الشعر في المركز من قصتها الشخصية، في ضرورة تعلم النساء مهنة تساعدهن على تأمين حياتهن، فهي تعاني من وجود “كيس ماء في الرأس” يضطرها لأخذ جرعات كيميائية شهرياً، بتكلفة تزيد عن 150 ألف ليرة سورية.
لم يقعد المرض ريتاج، بل على العكس دفعها للعمل كمدربة في المركز، ولديها في دورة تزيين السيدات أكثر من 125 امرأة، تسعى لتأهيلهن بمهنة يستطعن من خلالها تدبر بعض مصاريف الحياة القاسية، وتحضهن على العمل لمساعدة أنفسهن، ف “لولا هذا العمل لما استطعت تدبر تكاليف العلاج”.
الصورة لأحدى الطفلات المشاركات في المعرض – تصوير: ابراهيم حسن.
“هناك رغبة من جميع النساء الموجودات في المركز للنجاح” تقول السيدة ثريا، “هذا ما دفعنا للتفكير بالقيام بعرض أعمالنا ومنتجاتنا من خلال المعرض الذي أقمناه منذ أيام، للفت الانتباه للنساء الموجودات وإبداعاتهن ومساعدتهن والوقوف بجانبهن”، وقد لاقى المعرض نجاحاً مميزاً، و”طلبت منا الكثير من المنظمات والجهات شراء منتجات النساء العاملات في المركز، وسنقيم خلال الفترة القادمة مزاداً لمنتجاتنا، ويعود ريع هذه المنتجات للنساء اللواتي عملن على إنشاء هذه المواد، بعد اقتطاع الكلفة التي قدمها كاملة المجلس المحلي في القرية من شراء المواد الأولية والمعدات البسيطة بالإضافة إلى اقتطاع رواتب المدربات”.
تأمل ثريا محمد المجازة في علم الاجتماع أن يكون لهذا المشروع مركزاً خاصاً، بعيداً عن ظروف وخصوصية العمل في المسجد وما يترتب عليها من معوقات، لتتمكن مع النساء في المركز من توسيع عملهن ونشاطهن، بافتتاح دورات جديدة، بالإضافة إلى العناية بالأطفال من خلال مركز ترفيهي وتعليمي والعناية بالأرامل والمطلقات ودمجهن في المجتمع ومساعدتهن من خلال مشاريع صغيرة يستطعن من خلالها تامين الحياة لهن ولأطفالهن في ظل ظروف الحياة القاسية ونظرة المجتمع السلبية لهن.
مصطفى أبو شمس.