كان الكردي الستيني يضع أكياساً من التبغ أمام أحد المحلات الصغيرة على طريق الباسوطة، ولكن “الترفيق” بين شطري مناطقنا المحررة من إعزاز وحتى إدلب، يمنعنا نحن عابرو الترانزيت أصحاب الختم الأحمر من ترجي السائق أن يقف لدقيقة، دقيقة واحدة كانت ربما تكفي لتعيد لي أبي من جديد بعد أن فقدت حضوره ولو مناماً منذ سنتين، حين كنت دائما ما أعيشه بتفاصيله الصغيرة التي اقتصرت على نظارة كبيرة يقرأ من خلالها، وكيساً أزرقاً للتبغ، ومشرباً من الخشب العادي، وكأساً أبيض يضع فيه قهوة باردة يكتفي بها كغذاء صباحي حتى المساء، وهو جالس بعد أن أُقعد من عمله على تلك الكنبة في شرفة منزلنا في حي مساكن هنانو العمالية، ليراقب العمال الذين كانوا يبدون ككتل الإسمنت تلك التي كانت تبدو من شرفتنا، أبي كان يستمتع بالمشهد لأنه عاش في معمل الاسمنت منذ ستينات القرن الماضي، إلى الدرجة التي بدا الاسمنت بنظره حنوناً عليه أكثر من منظر الحدائق، لذلك كان نادراً ما يغادر البيت تحت أي ظرف.
ملامح الكردي بدت قاسية جداً، هي تشبه تلك الملامح التي كانت لصورة جدي المعلقة في صدر البيت، ربما كانت شراكة الجبال من وحّد تلك الخطوط المتعبة على جباههم وربما كان الظلم الواقع على الكرد يشبه إلى حد ما القرى المنسية التي كنا نعيش فيها، وحدها أمي كانت تنظر إلى أبيها المعلق على السقف بجانب زوجته القصيرة جداً فتلمع عيناها، كلنا كنا نخافه، وتآمرنا مرات كثيرة لإنزاله من على الجدار، لولا نظرات أمي بعينيها الصغيرتين التي كانت تشكل حالة من الرهبة تفوق بمرات صورة والدها.
الصورة تعبيرية من مدينة حلب 2015 – تصوير: جلال المامو.
قال لي أبي “على الجهة الشمالية من بيتنا كانت أمي تزرع التبغ، كان الانتاج تأخذه مؤسسة الريجة، مرّة استطاع تهريب بعضها ليبيعه في مدينة معرة النعمان، عندما أخرج الورقة من كيس الخيش كانت تصل حتى خصر أمك، قالها وضحك “أمك تشبه والدتها القصيرة جدا”.
للتبغ حكاياته التي لا تنتهي، كان أقسى ما سمعته قبل أن أحضر تلك الجلسة لشبانِ كانوا محاصرين في مدينة حلب، أن أهل قريتي الذين يزرعون التبغ، يشتلونه ويسقوه، ثم يقطفوه، يمر التبغ بمراحل كثيرة منها النشر والتنشيف بعد القطاف وحتى الغربلة والفرم ليسلموه أخيراً لمؤسسة التبغ، يلف الموظف سيجارة عشوائية ليحدد نوع الدخان ومرتبته وسعره الذي يتناسب طرداً مع النقود التي يضعها الفلاح في جيبه كرشوة، وأن النساء كانت تعمل ليل نهار لتجني في نهاية العام ثمناً أقل من الكلفة والتعب، أما أجملها فتلك اللمة التي طالما تحدثت لي والدتي عنها، والأغاني التي كانت القرويات تدندنها أثناء العمل، بفطرة سوية كن يعملن في زراعة الدخان دون أن يعرفن فعلاً إن كان ما يقمن به حلال أم حرام.
كل الرجال كبار السن كانوا يدخنون، لم أذكر يوماً أني رأيت سيجارة بيد الخالد حافظ الأسد، وهذا ما أفقده عندي الكاريزما التي أحاطت بجمال عبد الناصر وكاسترو وجيفارا وغيرهم من المدخنين، وهذا ما جعلني أيضاً غير مؤمن بثورة الثامن من آذار والحركة التصحيحية، فكيف تكون هناك ثورة لا يدخن صاحبها، ليعزز واكيم ومحمد الماغوط وجهة نظري تلك، حين كنت أتعلق بالتلفاز لمتابعة حركة أيديهم وهم يحملون سجائرهم بيدهم اليسرى، ويشعلون طرفاً منها لتتوهج، كثيراً ما حاولت تقليدهم وحاولت أن أتعلم كيف يدخن الإنسان حين يصحو من نومه كرأفت الهجان دون أن يشعر بجفاف في الحلق، متجاهلاً أن الإضاءة هي من تجعل المشهد يبدو وكأن الوقت يتغير كيفما يريد المخرج.
تلك الليلة التي أمضيتها في الأتارب مع رجال الحصار في مدينة حلب كانت مؤلمة للدرجة التي نسيت فيها أن أدلي بدلوي أنا الثرثار، ودون أن أسأل أي سؤال، بفم مفتوح ودهشة وكلمة “يا الله” كحسرة لأني لم أعش مثل تلك التجربة التي يحكيها روادها كمقطوعة موسيقية محزنة بابتسامة كبيرة، “كنت قد ندرت أن أشتري كروز دخان وتوزيعه على الناس بعد خروجنا” قال أحد الشباب الذي بدأ حديثه عن تلك الأيام، وهو يرمي بالسجائر للموجودين كيفما اتفق، من نوع مانشيستر أحمر، ذلك النوع الرديء الذي لم نسمع به إلا في الآونة الأخيرة، “شراب أستاذ، هي السيجارة كانت تنباع بـ 5000 أيام الحصار” ابتسمت لحديثه “السيجارة السيجارة مو الباكيت” ليقاطعه أحد الموجودين “الراحة –نوع من الدخان- كان ينباع بـ 7500”.
الصورة خلال فترة حصار مدينة حلب – تشرين الأول/ 2016 – ت: اسماعيل عبدالرحمن.
خرجت من فمي كلمة “مارلبورو” قهقه الجميع، وأدركت خطئي مباشرة، بدا منظري كرجل غبي فتقوقعت على نفسي، لينهي حصة الضحك تلك قال مضيفنا أبومحمد “انتشرت دلالة الدخان في حلب خلال فترة الحصار، سيجارة من البائع وسيجارة من المشتري لكل باكيت، كنت أستطيع تأمين ثلاث سيجارات كل يوم بعد كل وجبة طعام من خلال الدلالة، في أحد المرات أمنت بيع كروز كامل من الدخان كانت حصتي باكيت كامل عشرون سيجارة، وزعت تسعة سجائر على الموجودين وتلذذت يوماً كاملاً بما تبقى بحوزتي”. تخطى سعر كروز الدخان ال 2000دولاراً، وظهر نوع جديد من الدلالة، بعض الشباب أخذوا على عاتقهم بيع باكيت من الدخان لصاحبه مقابل سيجارتين، كان يطلب صاحب الدخان” 120 ألفاً ثمنا للباكيت أما الباقي فأنت وشطارتك”.
جميع الموجودين نظروا إلى أبو أسعد الذي يجلس مستمعاً كمن يداري شيئاً في زاوية الغرفة، قهقهوا حتى نزلت دموعهم، “باع السوزوكي بكروز دخان” ليكملوا نوبة الضحك، انتفض الرجل” نعم حديدة وبعتا، كان رح ياخدا النظام، يعني هيك أحسن”، ثم أطرق في أرض الغرفة، انتظرت أن يقول شيئاً آخر، عم صمت قاتل في المكان، صوت أنفاسه وصل إلينا وهو ينفث سيجارة قد نسيها بيده “يا ريت ما طلعنا من حلب، صحيح هون الدخان متوفر، بس موب وقتو ولا بمكانو ولا بزمانو، لما رجعت عالبيت ما كنت زعلان عالسوزوكي الي راحت، كنت فرحان بالدخان، كنت بحلب عبنفخ لفوق، كنت يمكن عبتحدى الحصار والموت وكل شي، كنت وقتا حر”.
“ورق الباذنجان”، كان أكثر أنواع الدخان البديلة شيوعاً، “أثبت هذا الباذنجان أنه أصيل” وكان يضاف إليه “بعض الفحم الحجري لتعديل طعمه”، صارت السيجارة “تطقطق في الفم كمفرقعات العيد” وانتشرت “بسطات الدخان الباذنجان في الأسواق، كانت الناس تجتمع حول البسطات تلف سيجارة تتذوقها ثم تحكم” كموظفي الريجة سابقاً، “الربع كيلو كان بـ 6000 ليرة” قال أبو محمد ليكمل القصة “الناس لفت الشاي التركي وشربتو وورق النعناع والورق الفاضي، لم يبق شيء لم نحوله إلى دخان”، وكان الورق المستخدم “ورق تخطيط القلب”، أية مفارقة تلك، أن يكون الداء والدواء ملفوفاً في سيجارة واحدة، “كان أفضل من ورق الشام وكنا نشتريه بالمتر”.
يتابع أبو محمد “مرّة حصلت على ثلاثة سيجارات من جيب أحد الشبيحة الذين قتلوا في معركة حندرات، المرابطون هناك ليسوا مدخنين، عندما فتشوا جيوبه وجدوا علبة سجائر حمراء طويلة، فيها ثلاث سيجارات، عندما انتهت نوبتهم ليلاً، جاؤوني بالسجائر، قالوا لي : اغتنمالك كنز”.
الصورة أثناء تهجير أهالي حلب – كانون الأول/ 2016 – ت: اسماعيل عبدالرحمن.
ابراهيم روى لنا قصة كاملة عن تعاطف بعض الأهالي في مناطق النظام مع المحاصرين، دهشت للحظة وأنا استمع له، كيف كانوا يضعون السجائر في علبة بيبسي فارغة، يحكمون إغلاقها، ويرمونها في نهرقويق، لتصل إلى الجهة المقابلة في حي بستان القصر، كان الشباب هناك يلتقطونها بالشبكات ويوزعونها، أو يبيعونها، أما في الخطوط الأمامية فقد كانت تجري صفقات تجارية بين الطرفين، السلعة كانت الدخان والثمن كان آلافاً كثيرة.
كنت قد أنهيت سيجارتي ورميتها من نافذة حافلة الترفيق التي أقلتني إلى مدينة اعزاز، التفت إلى بائع الدخان، لم أرى شيئاً، لم أعرف الوقت الذي أمضيته وأنا أستعيد كل تلك التفاصيل، ما أعرفه أن مرارة سرت في حلقي، على الفور قمت بإشعال سيجارة أخرى كيلا أتوقف عن التدخين.
مصطفى أبو شمس