سألت جدتي وأنا أجلس في حضنها، وقتها كنت صغيراً، أثناء سفرنا من الكراج الشرقي في مدينة حلب باتجاه بلدة المنصورة في ريف الرقة الغربي، حيث يقطن أخوها المريض، كيف يحفظ سائق السرفيس كل تلك الطرقات إلى المنصورة حيث المسافات الطويلة، دون أن يضيع مثلي في كومة أقمشة قسَمت أرضاً ترابية إلى سوق أُطلق عليه اسم سوق الجمعة، كنت أنا أتوه بين أكوام الأقمشة المهترئة وهو يجد طريقه عبر الطرقات الطويلة !.
أشارت جدتي بإصبعها نحو لوحة طرقية كتب عليها (الرقة ١٠٠ كيلو متر)، مررنا بالقرب منها بسرعة البرق واستطعت تمييز سهم أبيض فيها كإشارة للدلالة على الطريق، قالت لي: “هوا يظل راكظ وين ما تاشرلو هذي ونو موصل الجرية”، لم يقنعني جوابها وقبل أن تعود لصمتها، سألتها بسرعة: ” طيب قبل اللوحة هي شلون كان يندل وقبل ما تصير السيارة؟؟؟؟ لما جنتي كدي شلون جنتم تروحون من مطرح لمطرح؟؟ “.
بدأت تشرح لي عن الزمن الذي لم يكن يحتوي على مبان وطرقات معبدة ولوحات طرقية، حدثتني عن ندرة الباصات في قريتها، حيث كانت تمر في وقت محدد من كل أسبوع، وأحياناً قليلة كانت تزور القرية ليومين متتاليين، سالكة طريقاً كانت الناس سابقاً تستخدمه، حين كانت الدواب وسيلة النقل الوحيدة، والذي تم تعبيده لاحقاً.
كانت مزارات مشايخ الصوفية وبعض آبار المياه والتلال الترابية هي العلامات التي يتخذها الناس خلال وجهتهم لمعرفة الطريق ” ياما ناس ظيعت بعظ” في متاهات هذه الطرق اليائسة، ليستقروا مع بعض العائلات في أرض لم تأخذ اسم قرية بعد، ولتتشكل الكثير من القرى من ضائعين قد تاهوا في الطريق إلى ديارهم، ليسكنوا أرضاً كانت منذ وقت قليل أرضاً فارغة، “يستثنى من ذلك العرب الرحل ( البدو)” استدركت جدتي أثناء حديثها عن طفولتها ، لتخبرني أن البدو لا يضيعون في الأرض كغيرهم، فالشمس والماء والأرض جدران بيوتهم، وأخذت تسرد لي القصص وبيدي ” شعيبية” ( قطعة حلوى) تلحس بأصبعها القَطر الذي يسيل من الورقة على يدي، أشرد بكلامها، سألتها بعد أن وقفت على قدماي التي نَمّلت من كثرة الجلوس وبعدما عدت لأجلس في حضنها: “ايمتى نوصل طولنا … بدي اسبح بالفرا”.
مرت قرابة السبعة عشر عاماً على هذه الحادثة وأنا أفكر في الطرق المعبدة و الحمير التي تسير والحكومات التي تتقاعس بالبحث عن طرق مختصرة وجديدة وعريضة وإصدار قرار بتعبيد الطرق التي وطأها حافر الحمار، فلماذا إذن نجد مفارق وطرق مقوسة مزفتة في أرض زراعية شاسعة وما هو التبرير المنطقي لوجودها؟
بحثت عن المُعبِّد الأول للطرق في سورية، لم أجد من تعب أكثر من الحمار وصاحبه، وبعدها كان للعثمانيين نصيب وللفرنسيين نصيب وللحكومات المتعاقبة، ولحكومة البعث نصيب أخر.
سَهلت اللوحات الطرقية التي كُتِبَت تارة بخط اليد من قبل رجل ضجر من طرق بابه وسؤاله عن القرية الفلانية أو كلمات كُتِبَت على حائط عريض على طريق لتُشير للركاب أن هذه الأرض تُسمى كذا وبعدها أرض بيت فلان، إلى أن تم حساب المسافات بين المدن وكتابتها على الطرقات.
الصورة تعبيرية للوحات طرقية في مدينة حلب كانون الثاني/ ٢٠١٥ – ت: جلال المامو.
وبعد اندلاع الثورة السورية (آذار ٢٠١١) وبداية الحراك المسلح وتقاسم المناطق وتدخل الدول وتلوين سورية عبر موقع livemap)) إلى اللون الأخضر الذي يُشير لمناطق سيطرة فصائل الجيش الحر، واللون الأحمر الذي يشير إلى مناطق سيطرة قوات الأسد، واللون الأسود الذي أتى فيما بعد ليأخذ اسم مناطق سيطرة تنظيم الدولة، ولون أصفر سمي بمناطق سيطرة قوات وحدات الحماية التي سميت فيما بعد بقوات سورية الديمقراطية ” قسد”.
ورسمت الحدود بالسواتر الترابية أو بالخنادق، ليسمح لفئات محددة من الشعب بدخول هذه المناطق دون غيرهم، وفرض إتاوات مالية ورشى للمرور إلى بعض هذه المناطق دون تلك، ولتصبح اللوحات الطرقية مرمى لهدف رصاص النشوة والانتصار للجهة التي سيطرت على هذه اللوحة.
ولكن ماذا لو تمت إعادة كتابة اللوحات الطرقية وتحديد المسافة والزمان للوصول إلى محافظة ما، حتما ستتحول اللوحة إلى عبارات أُخرى , وأسماء جديدة ومسافات مختلفة، بحسب الجهة ا التي تسيطر عليها، فالمسافة بين مدينة الباب شرقي حلب والتي تسيطر عليها فصائل الجيش الحر وبين مدينة حلب المسيطر عليها من قبل قوات الأسد، تقدر وبحسب لوحة طرقية في مدينة الباب ب ( ٤٠ كيلو متر) مكتوبة بخط الثلث وباللون الابيض، اللوحة القديمة كانت سابقاً تقول الحقيقة، ولكن اليوم إن تم نصب لوحات طرقية جديدة ستكون المسافة : ( حلب ١٢٠ كيلو متر من طريق عفرين أو ١٤٠ كيلو متر من طريق منبج + تأجيل لخدمة العلم وهوية نظامية للشباب والنساء بشكل عام الطريق سالك ويستثنى من دخول حلب كل مواطن تلطخت يده بالدم).
وللوصول إلى مدينة الرقة ستمر بلوحة طرقية سيكتب عليها 🙁 الرقة ٢٠٠ كيلو متر + اتفاقيات دولية وتفاهمات تركية أمريكية تسمح لمقاتلي الجيش الحر بدخولها ومسموح للنساء والأطفال ينصح بعدم ارتداء أسواره علم الثورة وتنظيف الموبايل من صور تدل إلى الانتساب لفصائل الجيش الحر).
في طفولتي طفرتُ، ووقفت على قدماي المُنَمّلة لطول الطريق من حلب إلى بلدة المنصورة، أما اليوم ماذا سيسأل طفل بعمري وقتها جدته أثناء سفرهم من مدينة إلى مدينة، وهل ستشير جدته إلى لوحة طرقية تخبره بأنه ربما يكون مطلوباً لهذه الجهة المسيطرة أو تلك؟.
خليفة الخضر