خلال خمسة وثلاثين يوماً فقط، أخرجَ قطب السينما العالمية السويدي «إنغمار بيرغمان» عام ١٩٥٧ فيلمه الشهير «الختم السابع» ليخلّده كأحد أهم الأفلام التي عرفناها في تاريخ هذا الفن العريق والمؤثر إلى حد بعيد بطبيعة الحال.
كان بيرغمان قد اعتمد في كتابته لهذا الفيلم على نص أعدّه بنفسه سنة ١٩٥٤ بعنوان «أصباغ الغابة»، حيث قدّمه آنذاك كمادة دراسية لطلاب مادة الدراما التي كان يدرّسها في مالمو، ليُنتجه كفيلم بعد ذلك بميزانية قليلة جداً باسمه المعروف حالياً (الختم السابع) نِسبةً إلى كتاب ديني لدى إحدى الطوائف في السويد يدعى «كتاب الأسرار الإلهية» وهو مُغطى -حسب البعض- بسبعة أختام، قيل أن من يتمكن من إزالة الختم السابع سيعرف سر الحياة.
تتحدث هذه الأيقونة السينمائية عن «أنتونيوس بلوك»، فارس من القرن الرابع عشر عاد من الحروب الصليبية إلى بلاده السويد برفقة صديقه «جونز» ليجد أن الطاعون قد ضربها، وأن الناس باتوا يعتقدون أن هذا الوباء ماهو إلا عقاب لهم من الرب جزاء ما اقترفوه من خطايا، ليبدأ الشك بمساورة أنتونيوس .. أنتونيوس الذي يعتقد أنه خادم الرب والمتحدث باسمه… لماذا يسلّط الله على هؤلاء الضعفاء مرضاً كالطاعون في حين نُقاتل في سبيله؟.
خلال ذاك الصراع النفسي الذي يقاسيه أنتونيوس يلتقي بالموت على هيئة إنسان، فيخبره هذا الأخير أن ساعته قد حانت، إلا أن الفارس تحدّى الموت بلعبة شطرنج، وهي الخالية من أي نسبة للحظ أو الخدعة أو الصدفة أو القدر حسبما هو معلوم، وهذا ما يقبله الموت في المشاهد الافتتاحية من الفيلم.
في أواخر الثلاثينيات من عمره، كان بيرغمان مخرج هذا العمل السينمائي الكبير يعيش صراعاً نفسياً مريراً بين المعتقدات الدينية المتزمتة التي تربّى عليها من جهة، وبين عقله ورؤيته للأمور ومعايشته للواقع من جهة أخرى، وقد نشأ بيرغمان في رعاية والده الذي كان قساً معروفاً، ما جعل معظم أفلامه تناقش قضايا من هذا القبيل كـ ثلاثية الإيمان مثلاً (عبر زجاج مظلم، ضوء الشتاء، الصمت).
يقول المخرج إن «الختم السابع» بالنسبة له هو «أنشودة دينية» أراد من خلالها تنقية ما توارثه من مفاهيم دينية ومعتقدات، وأن يناقش مسألة وجود الإله بحد ذاته؛ «في تلك الفترة كان هاجسي هو مسألة وجود الله، وكنت أعيش في حيرة بين ما تربيت عليه من إيمان، وبين الشك فيه».
في مقابل الحالة النفسية السيئة والتخبّط الذي عايشه أنتونيوس في الفيلم يستعرض الختم السابع جانباً آخر من آراء عديدة تتعلق بالإله، الغاية من الوجود، الإيمان، والموت.. كلٌّ حسب طريقة فهمه للأمور.. المُرافق جون يرى أن الحروب الدينية التي شارك فيها إلى جانب أنتونيوس هي مجرد حماقة وعبث لا طائل منه ولا جدوى سوى القتل، وأن الإله لو أراد فعلاً إنقاذ أناس أو قتلهم لفعل ذلك؛ في حين يظهر «غوف» الفقير وزوجته «ميا» .. يجوب البلاد مشغولاً بعمله كمسرحي كوميدي، متصالحاً مع العالم، سعيداً بإيمانه العفوي دون زيادة.
كانت «ميا» وزوجها الفقير على إيمانهما البسيط بمثابة المظهر الأكثر راحة وأُنساً بالنسبة للفارس أنتونيوس، أو حتى لمخرج الفيلم ومشاهديه أنفسهم.. زوجان يعيشان حياتهما أينما حطت بهم الرحال، بعيداً عن صراعات الوجود وإشكالياته الكبرى، أراد من خلالهما بيرغمان أن يعبّر عن مدى إعجابه بهما، وهكذا ينجوان من الموت، بينما ينتظر هذا الأخير إتمام لعبته التي وافق عليها مع أنتونيوس.
يعد «الختم السابع» أحد أيقونات السينما الخالدة لما فيه من رمزية وتساؤلات وأسئلة وأجوبة محورية تشكل واقع الإنسان ومعنى حياته وشكل المستقبل بالنسبة له أمام حقيقة الموت، ناهيك عن باقي مضمونه البديع إنتاجاً.. ولعل حاضرنا الذي نعيشه نحن أبناء الشرق الأوسط بإشكالياته الكبرى وأسئلته المفصلية بحاجة ماسة إلى مثل هذا الفيلم.
في جوهره يرتبط الختم السابع إلى حد ما بأحداث رواية «الطاعون» التي كتبها الفرنسي ألبير كامو عام ١٩٤٧ على أعقاب الحرب العالمية الثانية وسط حالة اليأس وغياب معنى الحياة التي كانت تعيشها أوروبا آنذاك، والتي صوّر فيها مدينة مصابة بهذا الداء، مغلقة من كافة جوانبها، لا يُسمح بالدخول أو الخروج منها، واستعرض كامو فيها طريقة تعاطي الحكّام ورجال الدين والأطباء وغيرهم مع هذه الكارثة، والجميع يحاول الاستفادة منها بشتى الطرائق، رجال الدين على سبيل المثال -هم دائماً ربما- يرون أن المصائب الكبرى هي ابتلاء من الله نتيجة ذنوب وآثام … إلخ، كلا العملين الفنيين كان لهما الأثر البليغ في واقع أوروبا والعالم الآن؛ وهذا ما يجعل الحديث عن تلك التجربة الإنسانية أمراً ملحّاً.
عبدالله الحسن.