نظام الأسد وهراء التفاوض
حاول الجزء السابق من ملف “قراءة تاريخية في بنية نظام عائلة الأسد، وديناميات تكوينه” أن ينقض التعريفات التي تحصر الأسد بكونه نظاماً شمولياً أو عسكرياً أو طائفياً، وذلك بناء على التعريفات التي يضعها علم السياسة لهكذا أشكال من نظم الحكم والإدارة، على أنه لم ينفِ وجود مشتركات عديدة بين نظام الأسد وبين تلك الأنظمة، في حين أن نظام الأسد نظام حكم مخترق على المستوى الخارجي، و”كلبيتوقراطي” على المستوى الداخلي، ويخضع للعديد من التوازنات التي أنشأها وارتبط بها والتي تبلور وتؤسس وجوده، لذلك هو وخاصة من بعد موت الأسد الأب عبارة عن كتلة صلبة غير قابلة للتفكك، لأن أي تفكيك في أي جزء منها سيؤدي إلى انهيارها بالكامل، ولذلك يصعب على ذلك النظام التفاوض، لأن التفاوض بطبيعة الحال يتطلب التنازل الذي يعجز عنه النظام كما سيحاول هذا الجزء الأخير من ملفنا أن يبينه.
حافظ الأسد في زيارة لروسيا لتوطيد التحالف في سبعينيات القرن العشرين (انترنت).
لم تكن سياسة الأسد تجاه اسرائيل والتي سماها بسياسة التوازن الاستراتيجي للقوى، هي حالة حصرية على هذا الجانب بالذات، بل عمد الأسد ليشكل من نفسه نظاماً سياسياً مخترقاً من كل الجهات، حيث لا هو عميل لأحد، وليس ببعيد عن أحد، وأيضاً دمر في سياسته الخارجية سياسة البعث الانتقالي، حيث أعاد رسم العلاقات مع الدول التي عدها بعث صلاح جديد رجعية، فإلى جانب الجزائر ومصر، أعاد العلاقات مع الأردن ودول الخليج والسعودية التي درت عليه أموالا طائلة، وحافظ على علاقته مع الاتحاد السوفييتي، وجمع إلى ذلك العلاقة مع إيران ليحقق تلك الثلاثية الإعجازية (إيران _السعودية _السوفييت)، وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، قدم له خصمه الرئيسي صدام حسين حبل النجاة، من خلال قتال قواته بداية التسعينات تحت راية العلم الأمريكي ضد العراق، ومنذ تسلمه بحث الأسد عن نصر يمنحه كاريزما، تبعد عنه لعنة خيانة الأصدقاء، فجاءت حرب تشرين ليشارك فيها ويخسر الكثير من الأراضي، ومن ثم يتم إعادة بعضها بعد معاهدة فك الاشتباك عام 1974، وليتاجر بذلك النصر الوهمي، ولم يكن هناك لعنة على القضية الفلسطينية مثل حافظ الأسد، فدعم فتح بداية ضد دعم صلاح جديد للصاعقة، ولكنه كان يحضّر الحركة لتكون ورقة في يده، إلا أن تصميم عرفات على قرار مستقل للفلسطينيين، دفع الأسد للتفكير في اغتياله بما عرف بقضية يوسف عرابي، ومن بعد ذلك بدأ يضيق عليهم في سوريا، ولم تساند طائراته القوات البرية السورية التي دخلت لتدافع عن الفلسطينيين في أحداث أيلول الأسود، وجاءت ضربته التي أنهت المقاومة الفلسطينية في الأردن تماماً عام ،1971 عندما منع قوات فدائية متمركزة في درعا من الالتحاق بالمعارك الجارية في شمال الأردن، في عجلون وجرش، والتي قتل فيها 700 فلسطيني وبينما تشرد الآخرون ولم يبق للمقاومة الفلسطينية أي تواجد في الأردن، ومن ثم خرجت فتح للبنان، ليتبعها الأسد مصراً على تحويلها ورقة في يده، ودفع لانشقاقات في صفوفها، وجاءت الحرب الأهلية اللبنانية التي كانت كنز الأسد الذي تمكن من القضاء على أشكال المقاومة اللبنانية الوطنية، واغتيال قائدها كمال جنبلاط، وعلى المقاومة الفلسطينية وطردها نهائياً من هناك، ولم يخضع الأسد لأحد في لبنان إلا لإسرائيل، ومن ثم وبعد انسحاب الإسرائيليين، بنى الأسد دولة لبنان الخاصة به وبات له موالين، من أمثال إيلي حبيقة مرتكب مجازر صبرا وشاتيلا، وبنى مقاومة لحسابه تجلت بحزب الله.
حافظ الأسد وياسر عرفات (انترنت).
في الثمانينات وبعد القضاء الدموي على الإخوان، استطاع الأسد أن يضع الدولة السورية كلها هذه المرة خلف ظهره، وباتت سوريا بالفعل سوريا الأسد، وتكفي قضية أزمة الخلافة دليلاً على ذلك، فقد ألم بالأسد في أواخر عام 1983 مرض خطير أعاق عمله، وبدت مطامع رفعت أخيه في السلطة، ورغم أن الخلاف كان على قيادة دولة وشعب، فإن الشخص الرئيسي الذي حل الخلاف كانت ناعسة أم الأخوين، أمر أشبه بأفلام المافيا، تم طرد رفعت الأسد من سوريا بطريقة مشرفة، أكسبته ثروة هائلة ما زال يستثمر فيها في فرنسا حتى اليوم، وكرد فعل على ذلك انطلق في المؤتمر القطري الثامن في الشهر الأول من عام 1985 شعار “قائدنا للأبد، الأمين حافظ الأسد”، وبدأ بشكل علني تحضير باسل الأسد للسلطة، وكاد تململ علي حيدر من ذلك الأمر يكلفه حياته، وبعد مقتل باسل الأسد جيء ببشار أخيه لعملية التحضير، دون أن يصدر أدنى اعتراض من أحد، وكأن الجميع قد وقع تحت صدمة طوفان الدم في الثمانينات، الذي أودى بحياة عشرات الآلاف ورمى بأضعافهم في السجون، وكان من باب المهزلة أن النقاش السائد عند موت الأسد بين عموم طبقات الشعب أنه بكل حال يبقى بشار الأسد أفضل من أن يأتي رفعت الأسد للسلطة، كان الأسد يومها شكل نوعاً من السيادة التقليدية بعد أن فشل سعيه للسيادة الكاريزماتية، وبموته كان الأسد قد سلم ابنه نظاماً متكامل البنيان، علته الوحيدة أنه لا يدوم إلا بدوام بنّائه، وقد سلم معه طريقة الخطاب الكاذب لذلك النظام الذي على الابن أن يتبناه، والذي افتتح به الابن حياته السياسية بخطابه الإصلاحي في مجلس الشعب، مذكراً الشعب حينها بكلمات أبيه في عام 1975 في انتقاد حادثة قتل للسجناء في العراق قائلاً “تصوروا أن نقوم نحن بسوريا باغتيال مواطن، لأنه فقط ضدنا سياسياً” واعتبره أمراً شاذاً وغريباً في هذا العصر وكل عصر.
الصورة من دمار حماة 1982 (انترنت).
مما سبق لا يمكننا أن نعرف نظام الأسد إلا بأنه نظام حكم اللصوص، كليبتوقراطي، شكل العلاقة فيه يقوم على مجموعة من التوازنات والتنازلات والتكاملات التي يضعها رأسه أو زعيم العصابة، وهذا ما فعله حافظ الأسد، حيث وضع أسس نظامه بالكامل كما سلف على مبدأ سياسة توازن القوى، ولم يكن هذا الأمر على مستوى السياسة الخارجية فحسب، وإنما الداخلية، فهو من دمر سياسة بعث اللجنة العسكرية الراديكالية في تطبيقها للاشتراكية، كما بينا سابقاً، عبر فتح قنوات جديدة مع طبقات الملاك والتجار ورجال الدين، وفي نفس الوقت حافظ على النهج الاشتراكي على أن يبقى مركز ذلك التوازن هو حافظ الأسد نفسه، وأي إخلال به يخل بالنظام السياسي بكامله ويدفعه للانهيار، والمقصود بأنه نظام كليبتوقراطي، أنه لا يقوم على شكل من العلاقات المحددة في الهيكلية التنظيمية أو الإدارية، فعلى الرغم من أن المستوى الأمني هو المستوى الأول من السلطة، ولكن صناعة القرار ومراكز القوى لا ترتبط بشكل معين وثابت، وإنما بأشخاص بعينهم في كافة المستويات، فقد يكون ضابط صغير في لواء عسكري ما، أهم من قائد اللواء وأكثر سلطة وقدرة على صنع القرار، وكل شخص داخل تلك الدائرة مرشح من شخص آخر كان قد تم وضعه من قبل الأسد في بداية تشكيل النظام، وبذلك تشكلت كتل متوازنة وقطاعات ودول داخل الدولة، تفاهماتها مبنية بشكل رئيسي على اقتسام السرقات، وليس السلطة، فالسلطة تبقى لمن يقوم بتلك القسمة والذي هو حافظ الأسد، وفي ظل هكذا نظام فإن غياب رأسه عن السلطة لمدة أسبوع واحد كفيل بانهياره، نتيجة الصراعات البينية التي ستشتعل بين كتله، وما إن بان ضعف بشار الأسد وريث نظام أبيه قليلاً، حتى بدأ ذلك النظام ينهار ويدخل في صراعات بينية منقسماً حاليا كما هو بادٍ بين روسيا وإيران، ومشكلة بشار الأسد أنه ليس نقطة التوازن في ذلك النظام لأنه وضع نفسه هناك، وإنما لأنه جاء في المكان الذي خصصه له أبوه في تلك البنية، وبالتالي هو غير قادر على التحكم بها أو خلق توازنات جديدة من خلالها، وكان كل ما حاول فعل ذلك وقع في فشل يتبعه فشل، وهذا ما بدأ مع إزاحة بعض رجالات النظام القديم حيث بدأت الانهيارات تتالى حتى وصل إلى اغتيال الحريري، ومن ثم استكمل الأمر للثورة وتابعاً لإيران وذيل كلب لروسيا، لذلك لا يستطيع بشار الأسد التخلي عن أي ركن من أركان نظامه، ولا أي ركن من أركان ذلك النظام قادر على التخلي عن بشار الأسد، وقد وقعت روسيا في تلك الدوامة فتارة تريد طرده وتارة تتمسك به، لأنها لا تملك ذلك الشخص الذي من الممكن أن يكون مكانه دون انهيارات كارثية في النظام، وبالتالي ولأنها جاءت لتحافظ على النظام فلا بد لها من التمسك ببشار الأسد، وأي حديث عن حل تفاوضي يفضي إلى المشروع الوطني هو محض هراء، ويدرك ذلك النظام جيداً، ويأتي للتفاوض ومعه مبادرة واحدة متعلقة بالحكومة الوطنية فحسب، ولن يستطيع حتى لو أراد ذلك أن يتخلى عن أي مركز للقرار في سوريا لصالح المعارضة، وهذا لا يعني أن لا تذهب المعارضة للتفاوض، ولكن عليها أن تذهب لفضح فقط عدم رغبة النظام بأي حل سياسي حقيقي، وعليهم أن يعلموا أن أي حل سياسي يرضى به نظام الأسد لا بد سيقضي عليهم وعلى الثورة، فعملية الانتقال الديمقراطي لا يمكن أن تكون لا من أعلى ولا بشكل تفاوضي، ولا بالتدخل العسكري الذي جاء لدعم النظام السد في وجه ذلك المشروع، وبالتالي فإن الحل الوحيد يكمن في الانتقال من أسفل، أي بإسقاط النظام ومن ثم إنجاز عملية الانتقال الديمقراطي.
رعد أطلي.