حافظ الأسد يبني نظامه على أشلاء الحزب والطائفة والجيش والدولة..
في الجزأين السابقين، تحدث الملف عن وضع الطائفة العلوية مع بداية تشكل الدولة السورية، بما له صلة مع قضية الملف، وعن تشكل حزب البعث، وكيفية تحوله من حزب سياسي مدني، إلى حالة أشبه بالتنظيم العسكري داخل الجيش، ومن ثم استفادة الأسد من حلقات الصراع المتعددة داخل الحزب وخارجه ليصل إلى السلطة، وسيتناول هذا الجزء، السياسات التي اتبعها الأسد لبناء نظامه الخاص، والتعريف الأصح له إن كان شمولياً، أم ديكتاتورياً عسكرياً، أم غير ذلك.
أثناء وصول حافظ الأسد للسلطة، كانت الطائفة العلوية وغيرها من الأقليات، قد قطعت شوطاً كبيراً في الاندماج في المجتمع السوري، ولكن أيضاً، كانت مشكلة الهويات الطائفية قد ظهرت بوضوح، بعد أن تخلصت اللجنة العسكرية، من القيادات الاسماعيلية والدرزية وحتى من الواجهة المسيحية في الحزب، وظل العلويون هم المسيطرون، ومن ناحية أخرى لم يلق بالأساس حزب البعث وغيره من الأحزاب اليسارية والقومية التي نشأت في فترة الانتداب، إقبالاً كبيراً من جهة الأكثرية السنية، وخاصة في المدن الكبرى، فقد فرض الحضور الفرنسي نمطاً ثقافياً واجتماعياً جديداً، بعيداً عن الطبيعة المحافظة لمدن كانت منذ قريب، من أهم مدن السلطنة الإسلامية، ترافق مع ذلك، تراجع دور هذه المدن، وضعف التجارة فيها نتيجة نشوء الحدود، فأحس المدنيون بغربة حقيقية عن ذلك المجتمع وتلك الأحزاب، التي تستورد أفكارها من دول الانتداب، وبدأوا يبحثون عن حل، يعيد لهم ثقافتهم وتجارتهم، فكان أمامهم الإخوان المسلمون، فمنهم من ناصر القوى الوطنية التقليدية (الحزب والوطني وحزب الشعب)، ومنهم من انضم للإخوان، وغالبيتهم عزف عن الحياة السياسية.
في ظل ذلك شعر أبناء الطائفة العلوية، وهم في رأس السلطة بحالة من الندية، وبدأ أبناؤهم يسكنون مدناً كانوا لا يتجرؤون على المشي فيها، وكثر عدد المتعلمين من بينهم، وعادت عليهم بكبير الفائدة سياسة البعث العسكري الراديكالية، واتباع سياسة الإصلاح الزراعي الذي ملكهم الأرض، ناهيك عن فتح الجيش كل أبوابه لاستقبالهم، وبالتالي كانوا مجهزين نفسياً للانخراط في بنية التزام طائفية عزم الأسد على بنائها في حال كان فقدها يهدد بفقد ما حصلوا عليه.
عجّل الأسد بإنتاج نظام سلطوي، شكلُ علاقاته الداخلية والخارجية تضمن فقط استمراريته كشخص في السلطة، ويطلق على هذا النظام في معظم الحالات اليوم نظاماً ديكتاتورياً عسكرياً، أو نظاماً شمولياً، ولم يكن الأسد لا هذا ولا ذاك، رغم وجود العديد من المشتركات مع شكلي هذين النظامين، فالقائد الشمولي عادة ما يحمل “يوتوبيا” خاصة يسعى لتحقيقها في الدولة والمجتمع، ويقمع أي محاولة للوقوف في وجهها، معتمداً على إيديولوجيا وأهدافاً موضوعة أو مندرجة ضمن تنظيم سياسي معين، وتوفر للأسد ذلك لو أراده في حزب البعث، ولكن لم يكن ذلك ديدنه، وإنما الحفاظ على سلطته هو الهدف الرئيس، فقرر سرقة الحزب بالكامل.
في المؤتمر القطري الخامس عام 1971، تخلى حزب البعث نفسه عن مبدئه الرئيسي بقيادة الجماهير والقيادة الجماعية، وما إلى ذلك من شعارات، رددها طيلة أربعة وعشرين عاماً لصالح” قائد المسيرة”، فقد جاء في مقررات المؤتمر أنه “على الرغم من أن التاريخ ليس تاريخ أفراد وإنما شعوب، ولكن الشعب العربي السوري نتيجة ظروفه وتطوره الخاص بحاجة إلى قائد، وأنه بدأ يرى في شخص حافظ الأسد هذا القائد”.
الصورة من اليمين حافظ الأسد - غير معروف - قائد المخابرات الجوية اللواء محمد الخولي - قائد المخابرات العسكرية
علي دوبا - غير معروف - وزير الداخلية عدنان الدباغ
كان ذلك تصريحاً واضحاً، بنهاية كل شيء خارج قرار الأسد، وبذلك كان الأسد قد أخفى الحزب عن المجتمع السوري خلف ظهره، ومن ثم قرر إدخال المجتمع والدولة داخل هذا الحزب، بعد أن أقر دستور عام 1973 الذي وضعه الأسد أن الحزبَ قائد للدولة والمجتمع، ومنح الأسد نفسه صلاحيات تؤهله لمنزلة مطلقة في حكم سوريا.
بعد أن وضع الأسد يده على الحزب بإحكام، وحوّل أعضاءه بكاملهم عبيداً له انتقل إلى الخطوة التالية، وهي ضم أكبر عدد من ممكن من السوريين للحزب، لتخيّم سلطته على كل بيت في سوريا، فقد كان دائماً الدافع الرئيسي للأسد في سياسته مبنياً على الخوف من فقدانها حتى بداية عقد الثمانينيات حين عمّدها بالدم، وقد ارتفع عدد المنتسبين للحزب عند استلامه السلطة من 65398 إلى 1008243 بداية التسعينات، أي ما يعادل 14.5 % من نسبة السكان، في حين أن الحزب الشيوعي السوفييتي في قمة توسعه لم يتخط نسبة 9.5% من عدد السكان، ولم يكن المنضمين للحزب بدافع الولاء، بقدر ما هو بدافع تحصيل مكتسبات اقتصادية، بعد أن بات الحزب بوابة التوظيف والمنح والترقيات والنقابات والاتحادات.. لم يطالب الأسد أعضاء حزبه بالولاء لأهداف الحزب ولا له حتى، بقدر ما طالبهم بالطاعة، على مبدأ “إن لم أحصل على ولائك فسأحصل على طاعتك”، والولاء لنظام الخدمات الخاصة، فمقابل بقاء الحزب وبقاء السلطة كان الفساد مستشرياً في الجهاز البيروقراطي للدولة السورية حتى النخاع، ولا شيء يردع الفاسد ما دام ساهراً على تقديم فروض العبادة للأسد، وساهراً على حماية نظامه بأي طريقة كانت.
هذا على المستوى الداخلي للحزب، أما على مستوى العلاقات الوطنية، فقد أنهى الأسد السياسة الراديكالية للبعث الانتقالي، من خلال انفتاحه على طبقة الملاك والتجار ورجال الدين، وفسح المجال لهم ليس للاستثمار، وإنما للمشاركة في نهب البلاد، على أنه رغم ذلك فقد كان شكل العلاقة معهم يتضمن نوعاً من الشراكة بين التجار ورؤوس الأموال، وبين الضباط الأمنيين والعسكريين، إلى جانب المصاهرة والتزاوج وبالتالي ربط المصير الاقتصادي وحتى الاجتماعي لتلك الطبقة بنظام الأسد، واستشرى الفساد في الدولة السورية، ابتداء بمحمد حيدر وزير الخمسة بالمئة في السبعينات، وليس انتهاء برامي مخلوف صاحب المئة بالمئة قبيل الثورة، ونتيجة هذا الفساد كانت سوريا دائماً تعاني حالة من الركود الاقتصادي والتضخم وأحياناً كثيرة وصلت لحافة الانهيار، لولا صنبور الخليج الذي فتحه الأسد أيضاً، ولم تكن عائلة الأسد أبداً تعير اهتماماً للاقتصاد بقدر ما تعيره للسلطة، ولعل طريقة الاتفاقيات السورية التركية في بداية عهد بشار الأسد ورجب طيب أردوغان وما جلبته من كوارث على المصانع والورشات والعمال السوريين، يبين حجم الإهمال للمصلحة الاقتصادية للبلاد عموماً، مقابل العلاقات الجيدة التي يمكن أن تبقي العائلة في السلطة.
يسعى الديكتاتور العسكري بالشكل الرئيسي لضمان بقائه في السلطة، ويعتمد بالمقام الأول على الجيش الذي أوصله لذلك المكان، ويدعم تلك المؤسسة ويمنح قادتها امتيازات عديدة مقابل ولائهم وشراكتهم في تأمين سلطته على أنها سلطتهم، ولكن الأسد لم يترك أيا من الجنرالات السابقين الذين عملوا معه ليصل إلى السلطة، بل قتل كل شركائه، ولم يكن شيئاً يقلق الأسد مثل الجيش، لذلك عمل على تفريغه بالكامل من قوته، بعد أن استولى على كل قطاعاته، وذلك عن طريق تشكيل ميليشيات موازية للجيش طيلة فترة عهده، وبناها من أبناء الطائفة العلوية ليجعلهم أداته الجرمية في قمع أي تهديد لسلطته طيلة فترة حكمه، فكانت سرايا الدفاع بقيادة أخيه رفعت، وسرايا الصراع بقيادة عدنان الأسد، والحرس الجمهوري بقيادة عدنان مخلوف شقيق زوجته، والقوات الخاصة بقيادة علي حيدر، وكذلك الأمر بالنسبة للفرقة الرابعة بقيادة ماهر الأسد لاحقاً، والمغزى من ذلك كله أن تكون تلك الميليشيات في البداية أقوى من الجيش وقادرة على صده وردع اي محاولة انقلابية، ترافق إلى جانبها العديد من الفروع الأمنية التي تناوب على رئاستها باستثناء شعبة المخابرات العامة الضباط العلويون، وامتلأت أقسامها وفروعها بأبناء الطائفة، كل ذلك على حساب الجيش الذي كان ضباطه الأمراء لا يتجرؤون على مواجهة صف ضابط من الميليشيات والفروع الأمنية.
الصورة لحافظ ورفعت الأسد
اعتمد حافظ الأسد على الطائفة العلوية بالدرجة الأولى باستمرار تعسفه وفساده في السلطة، وكان نظامه طائفياً من حيث النتيجة، ولكنه لم يكن كذلك من حيث الدافع، فلم يسع الأسد لإنتاج سلطة “أوليغارشية” مبنية على أساس انتمائه الطائفي، وإنما على أساس انتمائه الشخصي فحسب، وبذلك سعى لأن يستخلص من الطائفة العلوية بنية التزام طائفية خاصة به _طائفة الأسد_ معتمداً على ترسيخ المظلومية في الذاكرة الجمعية للعلويين، وإظهار نفسه على أنه المخلص المنتظر، ونجح إلى حد بعيد في ذلك وخاصة بعد أحداث الثمانينات التي أعاد فيها الإسلاميون وعلى رأسهم “الطليعة المقاتلة”، إحياء الفتاوى القديمة بوجوب قتل “النصيريين” ومحاربتهم، ومن الذي سهل في الأمر أن البنية الفكرية التي تستند عليها كل الفرق الإسلامية التي خرجت من المذهب الشيعي، ترتكز بشكل أساسي على قاعدة انتظار مخلص ما يأتي لينقذ الفرقة، من ظلم مزمن واقع عليها.
لذا اعتمد الأسد على قادة علويين ولكن تابعين له بالمطلق أولاً، ومن الذين ينتمون لعائلات لها احترامها في الطائفة، ولكن على مستوى القرية وما دون، ثانياً ليمنع أي فرصة في التجمع حول قيادة جديدة قد تفرزها الطائفة من وجهائها المعروفين، فلا علي حيدر ولا علي دوبا ولا محمد ناصيف ولا محمد الخولي ولا علي أصلان من عائلات كبيرة في الطائفة العلوية، وإنما من الصف الثاني، ومعظمهم أبناء رجال دين في الطائفة، وقد سعى الأسد حثيثاً لإبقاء أبناء الطائفة العلوية علويون، وارتبط العلويون بالهوية السورية والعربية بشكل قوي، ولكن تلك السورية التي تخضع لسلطة الأسد، وعمل الأسد على إبقاء التخلف والجهل والترغيب في دخول الجيش في صفوف العلويين، وحرم العديد من قراهم من الخدمات المعيشية ليدفعهم ليتركوا قراهم ويلتحقوا به بالعاصمة والمدن الكبرى، حيث سلمهم الوزارات والمؤسسات البيروقراطية السيادية، ورغم أن الكثيرين منهم كانوا يسكنون تلك المدن على اعتبار أنها سورية وأنهم سوريون لهم الحق في ذلك، إلا أن نظام الأسد حرص على تعميق الشرخ بينهم وبين سكان المدن، وخاصة الطائفة السنية التي نظرت إليهم نتيجة سياسات النظام في كثير من الأوقات، على أنهم مغتصبون حرموا الكثيرين منهم فرص العمل والحياة في مدينتهم، وأشبه بالمستوطنين منهم بالمواطنين، وخاصة أنه راح يمنحهم تجمعات سكنية خاصة بهم، ولو أن الأمر كان لخلق دورة اجتماعية جديدة في المجتمع السوري، من خلال اندماج البنى الطبيعية للمجتمع السوري مع بعضها لكان الأمر إنجازاً يحسب للأسد، إلا أن غاية النظام كانت على عكس ذلك تماماً، وهذا ما بدت نتائجه واضحة في الثورة السورية.