محمود عبدالرحمن.
يغادر "أبوغيث" منزله في المدينة القديمة في حلب كل صباح الى حي الشعار حيث يعمل محاسبا في أحد المحال التجارية. تودعه زوجته بالصلوات والدعوات أن يحميه الله من البراميل التي تمطر من سماء المدينة، ليبادلها هو بدوره نفس الدعوات.
يعيش هذا الرجل الثلاثيني مع زوجته وطفله الذي لم يتجاوز عمره الثلاثة أشهر. ترافقه في طريقه إلى العمل الكثير من الأفكار والصور السوداء وتشغل باله خيارات أحلاها مر.
"لم أكن أخاف الموت بقدر خوفي على ترك زوجتي وطفلي بدون معيل في هذه الظروف المعيشية الصعبة. ومن جهة أخرى ماذا لوكان الموت أسرع إليهم مني ماذا عن زوجتي وطفلي الرضيع إنها مفاضلة صعبة"، يقول.
البقاء أم الذهاب؟
البراميل التي تتساقط يوميا هنا وهناك ناثرة معها البيوت وسكانها تجعل هذا الرجل دائم التفكير في سلامته وسلامة عائلته، وتبقيه على تواصل مستمر معها: "لا يمكن أن تمر ساعة دون أن أتحدث إلى زوجتي وكثيراً ما أترك عملي وأعود مسرعاً إلى البيت لشدة الذعر الذي يصيبهم عندما يكون القصف قريباً منهم".
زوجته "ام غيث"تمضي يومها حاملة طفلها الرضيع لتجري به إلى الغرفة الداخلية من الطابق السفلي كلما سمعت صوت الطائرة لعل سقفاً اخرَ أو جداراً يحمي طفلها. تقول: "أشاهد يوميا على التلفاز كيف يدمر البرميل المباني بأكملها وأشاهد كيف ينتشلون الناس من تحتها أحياء في بعض الأحيان وهذا ما يدفعني للاحتماء قدر الإمكان".
بالنسبة لهذه السيدة، لم تعد الحياة اليومية مجرد روتين تمارسه بل سلسلة من المغامرات المحفوفة بالمخاطر. وتقول "لطالما كنت محتارة هل أطلب من زوجي البقاء خوفاً من القصف الذي يطال الشعار أم أطلب منه الذهاب عله ينجو إذا قصف بيتنا وأحاول تأجيل ما أحتاجه من السوق خوفاً على زوجي من القصف المستمر" فكل الطرق لم تعد أقل خطورة من "طريق الكاستيلو" وهو المخرج الوحيد لمدينة حلب ومستهدف بشكل مستمر من قوات النظام او قوات حماية الشعب الكردية المتمركزة في حي الشيخ مقصود.
الأدوية لن تشفيه
كان المعهد السوري للعدالة أحصى 907 غارات بالصواريخ و270 برميل متفجر و63 صاروخ ارض-ارض وعشرات القذائف المدفعية سقطت على المدنيين خلال شهر نيسان الماضي، استهدفت 517 منطقة سكنية بينها 25 سوقا شعبيا و6 مراكز طبية كان أهمها مشفى القدس الذي قضى فيه طبيب الأطفال الوحيد في المدينة الدكتور وسيم معاز مساء الأربعاء 28 من الشهر نفسه.
حدث هذا القصف العنيف بعد أكثر من أسبوع من مرض غيث وتأجيل والده اصطحابه للمشفى حتى تخف وتيرة القصف "اشتريت له بعض الأدوية من الصيدلية رغم يقيني أنها لن تشفيه لكنها قد تخفف عنه ريثما يسمح الطيران بطريق آمن أستطيع من خلاله اصطحابه إلى الطبيب في مشفى القدس لكن الأمر زاد سوءاً بعد استهداف طيران النظام للمشفى وأودى بحياة آخر طبيب اطفال في المناطق المحررة".
وبينما كان العالم بأسره يتابع أخبار الموت في حلب كانت الحملة التي أطلقت للتضامن مع المدينة "حلب تحترق" في أوجها والناس تبدل صورها على الفيسبوك إلى اللون الأحمر تضامناً، كان أبو غيث وزوجته يتابعون صوت البرميل من جهة وأخباره وعدد ضحاياه بعد أن يسقط من جهة أخرى ويتتبع كل خبر يتحدث عن هدنة او تهدئة."حلب تحترق وكنا نبحث عن قشة من أمل نتعلق بها وعن خبر يبشر بتخفيف وتيرة الموت لأن أملنا بإيقافه تماماً أصبح معدوماً بعد كثير من الخيبات التي تصيبنا عقب كل تصريح لمسؤول عربي او غربي".
ماذا بعد الهدنة؟
في 29 نيسان الماضي أعلن زعماء العالم دخول مدينة حلب في هدنة لمدة 48 ساعة، سمحت لأبي غيث باصطحاب ابنه للمشفى حيث عالجه طبيب غير متخرج. يقول "بالتأكيد لن تطالب بأطباء اختصاصيين هنا ولا يمكنني إلا أن اشكر هذا الطبيب النبيل، فهو من القلة الذين اختاروا البقاء معنا هنا".
وينتظر أبوغيث وسكان مدينة حلب البالغ عددهم 400 ألف نسمة بحسب آخر احصائية لمجلس مدينة حلب نهاية الهدنة وما سيحدث بعدها.
بحسب أبو غيث "كانت الهدنة جيدة بالنسبة لي ولمعظم من أعرفهم في المدينة فالقصف أنهك الجميع من مدنيين وفرق انقاذ واسعاف وإيقاف قتل المدنيين المحرم دوليا أصبح بحاجة الى اتفاقيات وهدن، ولكن ماذا بعد أن تنتهي ساعات الهدنة".