” أنت مدينتي ليسقط من يسقط ما يهمني الآن أني استطيع رسم وجهك بحرية “
على باب المدينة كانت الرسوم تملأ الجدران المهدمة.. ما الذي كان ينوي ذلك الرجل فعله حين كتب على جدراننا، كم ابتسمت له الجدران كم عانقت ريشته ليرسم كل تلك الوجوه الفرحة على ما تبقى منا، يأتي بعد الموت بدقيقة ويسبقنا بأمل، يلون الجدران بألوان قوس قزح ويكتب فوق شخصياته المرسومة ما يقتل الخوف فينا.
لعل استحضار شخصية الناطور في مدينتنا كانت عبثاً فهل علي أن أعرف كل الأرصفة وكل الناس وكل الجوع المنتشر على وجوه الصغار؟ .
أقف أمام ” حنفية الماء ” ربما كان عليّ أن أسقيها ظمأنا كما روت قلوبنا لسنين كثيرة مرّت، هل عليّ أن أشعل القناديل لأنير شوارع المدينة المظلمة، وأن أطليها بالأزرق كي يغادرها الضوء ولا ينتبه لوجودها سرب الطائرات الباحث عن النور ليقتلنا فيه، وهل عليّ أن أقفل الأبواب كل مساء كي لا تهرب الجرائد من ثقوب الأبواب وتشي بالقادم الجميل على شكل ثورة من حبر، وكي لا يدخل ضجيج الأضواء وحفلات الديسكو ورائحة الشواء إلى بابنا الفقير فيثير فينا غريزة الحقد والاشتراكية وتكافؤ الفرص.
على حافة الشارع المهدم كان الصراخ يعلو للحنين إلى العودة، حين يحلم الصغار بالموت على شكل طاقية إخفاء ليخرجوا من باب المدينة ويتجولون في شوارع الأمير، يقضمون حبات التفاح والكرز دون أن يطالهم رصاص البنادق، يزورون آباءهم هناك حيث لا صوت الطائرات يعكر صفو لعبة الغميضة، وحيث هناك أمل بأن تفتح الأمهات أعينهم من جديد كلما علا صراخ الجوع.
هل عليّ أن أطلق لصفارتي العنان لأخيف لصوص الطريق .. أضحك لتلك الفكرة .
ما عادت البيوت واقفة ربما عليّ أن أطلق صوتي بموال قديم فالأماكن باتت مهجورة وصوت الصدى صار يخيف القطط التي لاتنسى طريق العودة .. فقط القطط في مدينتي لم تجد مهرباً لتقطع الحدود.
تجذبني فكرة الموت هذه الأيام ..لا أقاومه ولا أحادثه ولا أقاتله كـند وأعرف أنه يحاذيني بالكتف وأن له انحناءة أعلى الظهر ورثها من أبيه كأنا حين أمشي مفكراً ناسياً أن أملأ رئتي بالهواء، وأتوق لرغيف خبز حياة لا “عِيْش” وجهه أحمر ساخن وينتفخ حرارة ولا يعاني. أما زال هناك فرن يبيع حياة طازجة نأكلها بدون منكهات ونشعر فيها بطعم الدقيق وعليها حبات من سمسم، أردت التواء في عقلي وتمزقاً في أربطته، هو استحضار لاسترجاع الطعوم في داخلي والحديث عنها فأنا بحاجة إلى جنوني كي أتابع ما تبقى منها.
أنا لا أحتاج إلى حفرة في الطريق كي أقع ..أنا أرسم المشهد وأعيشه خيالاً حين أحرم من مهنتي في إغلاق أبواب المدينة، أمر في الزقاقات الضيقة لا رائحة الزعتر تعلق في أنفي ولا صابون الغار يعينني على استحضار حضارة الماضي الجميل، حيث الهواء رطب بين الحجارة القديمة فللحجارة حكاياتها ايضاً كما نحن، كم أراحت على أكتافها عناء الظهور المتعبة ، كم احتوتنا بحب، كم علقت على ثياب الأطفال ومراجيح العيد وكعكه.
أحتاج طعم العيد في شوارعنا فأمي تصنع لنا كعك النزوح” بعجوة” رائحته تملأ المكان وينقصه طعم بيتنا اليوم. قصف بيتنا أنا اليوم بلا بيت، و ناطور المدينة بات لاجئاً في شوارعها .