مصطفى حسين .
قدّم الأدب السوري خلال خمس سنوات من الثورة فكراً إبداعياً جديداً في صنوف الأدب المتنوعة بين الشعر والقصة والمسرح والرواية، وحاز بها على أهم الجوائز العربية .
مردّ ذلك ليس إلى العقل والحس المبدع لدى الكاتب السوري فحسب، بل إنّ الكارثة الإنسانية التي اجتاحت سوريا خلال السنوات الماضية والدوي المخيف الذي يتردد صداه داخل كل السوريين، ساهمت أيضاً بخلق هذا الإبداع، فمعظم السوريين فقد أحداً يعنيه خلال مجزرة أو اعتقال أو معركة وهُدّم له منزل كان له بمثابة الوطن .
من هنا يطالعنا مصطفى الموسى في مجموعته القصصية "مزهرية من مجزرة" التي يطرح فيها تسجيلاته لمراحل الثورة المتنوعة، وما خلفته بكامل العنف الذي جوبهت به على الإنسان السوري .
ما يميز هذه المجموعة أنها كُتبت بلغة واضحة مسترسلة وكلمات قليلة، مع رصد لكافة الجوانب والأدوات التي كانت تعيق السوريين عن ممارسة حياتهم بطريقة طبيعية، يخترق الموسى من خلالها عقل وقلب قارئه، وبذلك تزول الحواجز بينهما، لأنّ المجموعة توثيق للإنسان والوطن معاً .
ففي قصة تحمل عنوان "تذكار" يبرز نوع أدبي ساخر يتحدث بذات الوقت عن المأساة، والذي يُسمّى بالكوميديا السوداء، ربْطُ المأساة التي يعانيها السوريون بالسخرية كانت دائماً العلامة المميزة في معظم نصوص مجموعته:
"كانت نائمةً في منتصف الشارع، صوتُ المؤذن أيقظها فتذكرت واجبها الديني المقدس .
تلك الدبابة اللطيفة جداً التي يشع من وجهها نور بهيّ، دخلت إلى المسجد بهدوء؛ وثمة إيمان عميق في قلبها الطاهر يقودها لتصلي صلاة الفجر .
توضأتْ بدماء المصلين، ثم سجدت بخشوع لله، رغم بدانتها، بمساعدة كريمة من أشلاء من حولها.
وبعد أن انتهت من صلاتها، خرجت من المسجد، والسكينة تخيّم على روحها النقية.
فقط للذكرى .. أخذتْ معها المئذنة ! "
وهنا مثال آخر لتلك الملهاة، حيث تشارك الجمادات في شجب مشهد وحشي، حيث تبول صورة لرجل عجوز على رأس جندي كان ينزع عن معاصم الأطفال الذين قتلهم ساعاتهم الجلدية، يكتب الموسى:
" ذلك القديس العجوز المحشور بكل براءته، مع هالةٍ من النور حول رأسه، بين قضبان صورته العتيقة، والمعلقة على هذا الجدار.
كفكف دموعه وهو يرمق متألماً بعينيه الحزينتين هذا المنظر القاسي، الذي أدمى له قلبه خلال دقائق.
ثم ــ وبلحظة جنون ــ وكأنه فقد عقله، التقط بيديه ثوبه الطويل.. وراح يرفعه حتى خصره، ثم شرع بالتبول غضباً من قماش صورته إلى الخارج، وكأن صورته على الجدار مجرد نافورة.
ثمة جنديٌ داكن الملامح، منحنٍ أسفل الصورة تماماً.. بلل البول خوذته ثم وجهه ثم بزته ثم مؤخرته.
لكنه لم ينتبه أبداً، فقد كان منهمكاً بفك تلك الساعات الجلدية المتواضعة، عن معاصم الأطفال الذين قتلهم منذ قليل " .
يحاول الموسى أن يحولَّ الحدث العادي والواقع السوري إلى نص قادر من حيث بنائه أن يثير القارئ ويمسه، باعتبار أنه يعبر عنه إضافة إلى ما يمنحه من مساحة نقدية تعبر عن تعاسة الواقع بصورة مبتكرة، قد تنحو إلى قصص الطفولة وتأخذ انزياحها القصصي، ف"سندريلا" تنسى فردة حذائها بعد أن تنشر على الحيطان ملصقات معارضةً للنظام، وهذه المرة سندريلا ليست امرأة واحدة فقط، إنها "الشعب السوري":
"على عجلٍ وتحت ستار الليل، وبوشاحٍ يغطي كل وجهها باستثناء عينيها.. كانت سندريلا تلصق على جدار زقاقٍ عتيق ملصقات معارضة. من بعيد لمحها جنود الملك، فطاردوها بحنق بين الأزقة، لكنها اختفت فجأة، ولم يعثروا سوى على فردة حذائها. الخبر وصل للملك فاستشاط غضباً، ثم أمر جيشه بالتوجه إلى كل مدن المملكة، وإجبار الناس على دسّ أرجلهم في الحذاء.. وقتل كل من يتطابق حجم رجله مع حجم الحذاء. خلال شهورٍ قليلة اقتحم جنود الملك كل المدن والقرى، وارتكبوا بها الكثير من المجازر، لأن أرجل كل الناس.. رجالاً ونساءً.. أطفالاً وشيوخاً، كان حجمها يتطابق مع حجم هذا الحذاء. عندما انتهى الشعب رجع الجنود إلى ملكهم، فقلدهم بغبطة أوسمة النصر. رغم هذا.. ظلت سندريلا تظهر ليلاً في زقاقٍ ما، كلّ بضعة أيام.. لتلصق على جداره ملصقاً معارضاً. ثم تهرب, تاركةً خلفها في كل مرة.. فردة حذاء" .
مصطفى الموسى أحد أبرز أعلام الأدب السوري الجديد، حاز على جائزة الشارقة للإبداع العربي عام 2012 عن مجموعته "قبو رطب لثلاثة رسامين"، وحاز أيضاً على جائزة دبي عام 2015 عن مجموعته "الخوف في منتصف حقل واسع"، أما "مزهرية من مجزرة" فقد صدرت ضمن سلسلة "شهادات سورية" عن دار "بيت المواطن للنشر والتوزيع" عام 2014م .