دخل عام 2016 على السوريين عموماً وعلى حلب بشكل خاص يحمل عنواناً عريضاً – أتاحته نوعاً ما الهدنة “المنتهكة على الدوام من قبل نظام الأسد” – ويتمثل بعودة الثورة إلى صفائها الأول رافعة علم الثورة راية تعبر عن تلك العودة بعد أن سادت رايات عديدة تعود لفصائل مختلفة طيلة الفترات الماضية معبرة بتشتتها وكثرتها على كثرة تشتت وتشعب أهداف الثورة وغائيتها، وعاد العلم يرفرف فوق المظاهرات السلمية التي انطلق فيها المدنيون مصطحَبة بتواجد عسكري من الفصائل الثورية المختلفة، كما عاد العلم ليأخذ مكانه الطبيعي على أكمام البدلات العسكرية لمقاتلي الجيش الحر، و بات الراية التي ترفع في مواجهة فصائل أخرى مثل تنظيم الدولة وفصائل مساندة للنظام وحتى أحياناً في مواجهة جبهة النصرة كما حدث في معرة النعمان، ولكن هل رفع علم الثورة يعني العودة فعلاً في الثورة للمرحلة الأولى، في مرحلتها السلمية عندما صدحت الحناجر بأهداف واضحة حول الحرية والكرامة ووحدة التراب الوطني والمساواة بين جميع السوريين دون أي تمييز، أهداف تتحدث عن مجتمع ودولة يسودها النظام الديمقراطي بديلاً عن النظام الاستبدادي الأحادي الذي كان يتبعه الديكتاتور بشار الأسد، أم أن علم الثورة لا يشكل إلا راية مواجهة ضد من اختلف معه الثوار في تلك المرحلة من الذين يريدون تطبيق أجنداتهم وتعميمها على كل السوريين؟ بمعنى أوضح هل علم الثورة يتحدث عن مشروع بناء دولة أم عن مشروع مواجهة؟ رُفِع علم الثورة في بدايتها كإعلان مواجهة ضد نظام الأسد، وهو قد تم اعتماده بناء على أنه كان راية النضال التحرري الأول للسوريين من الاستعمار الفرنسي، فجاء أيضاً راية نضال تحرري ثان للسوريين من قبضة الدولة الشمولية الناصرية والتي بدأت في مصر وسوريا لتصبغ معظم الدول العربية بصبغتها الشنيعة التي تبدت في أوضح صورها أيام الربيع العربي وعلى رأسها نظام الأسد الكيميائي، وكان علم النظام السوري سابقاً هو العلم الذي ترفعه المظاهرات السلمية في مختلف مناطق سوريا، ولكن لا يمكن أن يستوي مكان العلم على الدبابة التي تقصف القرية أو المظاهرة التي ترفع العلم نفسه، فجاء علم الاستقلال الذي بات علم الثورة ليعلن الانشقاق التام عن جمهورية الخوف التي يهيمن فيها الأسد على كل صغيرة وكبيرة، وحمل معه كل المضامين والقيم المنافية لحقيقة جمهورية الأسد، من الحرية والعدالة والمساواة، واليوم وبعد خمس سنوات يعود الارتفاع الثاني للراية تلك فوق كل الرايات لتعبر أيضاَ عن الانشقاق عن المنظومة الفكرية التي حكمت الثورة خلال الفترات الماضية، أي أنه يأتي أيضاً في إطار المواجهة، ولكن هل من الممكن أن يحمل في هذه المرة وبعد كل هذا الدم ومرارة التجربة مشروع بناء للدولة الحلم التي ترفع شعاراتها في كل مكان يظهر فيه هذا العلم، دولة الحرية والمساواة والقانون، وبالتالي دولة المواطنة التي يحكمها النظام الديمقراطي؟ إلى الآن – ومن خلال ما ينشره معظم الناشطين في الثورة السورية داخل سوريا أو خارجها عبر مقالاتهم أو تعليقاتهم في الوسائل الإعلامية ووسائل التواصل الاجتماعي – المؤشرات تشي بغير ذلك، إلى اليوم هناك حالة من اللبس في فهم معنى الديمقراطية، تلك التي تحدث المفكر الفرنسي آلان تورين عن قواعدها الثلاث في كتابه “ما الديمقراطية”، تلك القواعد الواضحة التي لا يمكن أن يتشكل أي نظام ديمقراطي إلا بوجودها، وأولى تلك القواعد هي ضمان الحقوق الأساسية – طبعاً للفرد – وعلى رأسها تأتي الحرية، والثانية هي المواطنية والتي لا يمكن أن تجد مكاناً لها إلا بالمساواة، والثالثة هي الصفة التمثيلية، والتي تعني طريقة اختيار الشعب لممثليه في إدارة شؤون دولتهم، من تلك القواعد الثلاث يمكن أن ينطلق بناء القانون الذي يحكم تلك الدولة، ويحدد علاقات الأفراد فيما بينهم من جهة، وبينهم وبين الدولة من جهة أخرى، ومن المحتم وخاصة في مجتمع مثل المجتمع السوري فإن هذا القانون وتلك الدولة لا يمكن أن تكون إلا نتاجاً بشرياً بالدرجة الأولى، أي أنه بات من الأمر البديهي ارتباط الديمقراطية بالعلمانية، وبالتالي ارتباط أهداف الثورة السورية بشكل مباشر بالعلماانية. كتب أحد الناشطين في مدينة حلب يعبر عن استغرابه من اتهام أحدهم له بالعلمانية لأنه يطالب بالحرية والمساواة رغم أنه ابن مدينة مسلمة ومجتمع مسلم ويصلي ويؤدي جميع فرائضه، ولكن أولاً من يطالب بالحرية والمساواة والتي لا يمكن أن تتحقق إلا ضمن نظام ديمقراطي لا بد أن يكون علمانياً، حتى من قبل بعض عناصر ومجموعات التيار الإسلامي التي تطالب بالديمقراطية وتنظّر لها على أنها تملك جذوراً ضاربة في الفكر الإسلامي، ما هي إلا حركات علمانية خجولة، أو دينية انتظارية. تتطلب المساواة في مجتمع المواطنة الديمقراطي أن لا يكون هناك مواطن درجة أولى وآخر درجة ثانية، وأن يكون القانون الذي يطبق هو نفسه على الجميع دون استثناء، وهذا ما لا يتلاءم أبداً مع أي نظام يملك مجموعته القيمية والفكرية والأخلاقية والقانونية، دينياً كان أم عرقياً أم طائفياً، ولذلك من المستحيل أن يكون هناك نظام ديمقراطي يستطيع النهوض دون العلمانية، فهل يتقبل معظم من يرفعون علم الثورة ويطالبون بالحرية والمساواة بأنهم علمانيون، وهل هذه الراية وهذه الشعارات هي قاعدة ارتكاز لمشروع بناء أم أنها فقط منصة انطلاق لمشروع مواجهة؟ وثانياً هل العلمانية تعني حالة من الإلحاد ونكران الدين، هي قطعاً لا، فإن الدول الأكثر علمانية ما زالت المؤسسات الدينية فيها هي الأقوى مادياً والأكثر نشاطاً في العمل الإنساني والخيري، ولكنها مفصولة عن السلطة، وكلما ابتعدت عن السلطة أكثر ازداد نشاطها الإنساني والخيري وتواصلها مع رعاياها.
من المسلّم به أن الثورة والديمقراطية مفهومان يتعارضان مع بعضهما، فالديمقراطية هي ابنة المجتمع السياسي بالدرجة الأولى، تحدد طريقة اختيار المحكومين للحاكمين وتلعب دور الوساطة بين الدولة “الحاكم” والمجتمع “المحكوم” وتخفف من حدة تأثير الأولى على الأخير، بينما الثورة فهي تعبير عن إرادة المحكومين في نسف المجتمع السياسي الذي يحدد شكل الحكم والحاكم وتغييره بطريقة يرتضيها المجتمع، أي أنها مفهوم صراع بين الدولة والمجتمع لتحقيق نصر لأحدهما، بينما الديمقراطية لا تبحث عن نصر، بل تبحث عن توازن يكفل الحريات كما يكفل السيادة الشعبية، توازن تميل كفته في المجتمعات الديمقراطية هنا أو هناك متأرجحة بين الليبرالية والجمهورية، ولكنها لا تفقد أحداً من عناصرها لأنه سيعني زوالها، وهذا يقودنا إلى أن شعار المواجهة هو الذي على الجميع الأخذ به في زمن الثورة، ولكن الأخطاء الفادحة للشعوب في التركيز على المواجهة دون التفكير في البناء أودت بتلك الشعوب إلى ما آلت عليه حالها بعد ثورات القرن العشرين التحررية والشعبية التي جلبت في جلها أنظمة استبدادية، فهل نمتلك كنشطاء سوريين مشروع البناء الخاص بنا، كثير من الناشطين الذين يصرون على رفع علم الثورة اليوم تزينت جدران مكاتبهم ومقارهم برايات أخرى تعبر عن انتماءاتهم الدينية أو العرقية، في مرحلة كانت الرايات تلك شعار مواجهة أيضاً في وجه الأسد، واليوم عادوا لرفع علم الثورة كشعار مواجهة أيضاً مع أجندات أخرى أفرزتها حالة التوحش الناتجة عن الثورة.
ما زال السوريون إلى اليوم في معظمهم لا يحملون شعار بناء، وإنما شعار مواجهة، سيزول بزوال المواجهة، لذا ليس من المستغرب أن يعود علم الثورة للاختفاء ثانية بين زحمة الرايات إذا تغيرت الظروف، وهنا لا نقلل من نضالات الجميع في الدفاع عن روح الثورة وعلمها، وحتى من قد يدافعون عنه حالياً وقد يدافعون عن غيره غداً، وإنما نحاول أن نلمَح إشكالاً رئيسياً يصيب الثورة بمرض عضال من الناحية التنظيمية والفكرية، وهو أننا لليوم قادرون على المواجهة ونسعى لتبنيها، ولكننا لا نملك الإرادة نفسها في العمل على بناء أسس مرحلة ما بعد التغيير، الأسس الاجتماعية والسياسية التي من شأنها أن تؤهل لحالة مستدامة وواضحة لمآلات الثورة، لمرحلة نعي تماماً فيها لماذا هذا العلم بالذات نريده أن يخفق فوق رؤوسنا، وهل يخفق راية نضعها لنواجه فيها عدونا، أم راية نواجه فيها العدو نفسه ببداية مشروع النظام الخاص بنا .