لم يَفق اللبنانيون في 13 نيسان 1975 ليجدوا أنفسهم داخل حرب أهلية ستستمر خمسة عشر عاماً حاملة معها ما شهدته من قتل ودمار وخطف .
اللبنانيون أنفسهم يعرفون أن الحرب بدأت قبل ذلك بكثير , الحرب بدأت يوم أراد المجتمع الدولي عموماً وبعض الدول العربية أن يجدوا حلولاً لمشاكلهم في هذا البلد الجميل فبين لعبة الحرب الباردة والعدوان الإسرائيلي وبين الحركات المقاومة والحركات الإسلامية ولعبة تكسير العظم وجد اللبنانيون أنفسهم ينزلقون في أتون حرب أهلية كانت من الأقوى في القرن العشرين .
العالم كله اجتمع في هذه البقعة الجغرافية سلاحاً ومالاً ومخابرات وصارت لبنان المكان الأمثل للهاربين والخائفين والحالمين في كل مكان ، واختبأ الجميع وراء هوياتهم القاتلة كما يقول أمين معلوف الذي أسعفته الحياة وهرب من لبنان قبل أن يتحول على حد قوله إلى قاتل او قتيل وقبل أن يفكر في هوية قاتلة ليبرر ما كان سيفعل .
بوسطة عين الرمانة التي أطلقت الشرارة الأولى للحرب اللبنانية
صورة من مدينة حلب
لم تكن حادثة البوسطة ولا قبلها محاولة اغتيال بيار جميل هي السبب في الحرب الأهلية اللبنانية ربما كانت الفتيل الذي أشعل هذه الحرب ولكنها حتماً لم تكن السبب الحقيقي ، كيف ظهر في يوم واحد كل هذا الكم من الكراهية والاستعداد للقتل , كيف ظهر كل هذا السلاح في لبنان , كيف اصطف اللبنانيون في دقائق كل وجد مكانه في الخندق الذي عليه أن يكون فيه .
الزعماء اتفقوا بعد خمس عشرة عاماً في الطائف على إنهاء الحرب اللبنانية والاتفاقات السياسية تبدلت في أكثر من مكان , ولكن هل انتهت الحرب اللبنانية بالفعل ؟
هل سأل أحدنا نفسه أو قرأ عن الجيل الذي أنتجته هذه الحرب ، عن البسطاء الذين عانوا من ويلات الحرب وعن الذين فقدوا أبناءهم وممتلكاتهم ، هل استطاع اللبنانيون تجاوز هذه الحرب بعد 26سنة على اتفاقية الطائف ، في الوقت الذي لم يخسرالزعماء شيئاً وبقيت السلطة تنتقل من الآباء إلى الأبناء .
لعل ما عمقته هذه الحرب الأهلية من مكاشفة للوجوه حقق نوعاً من التعايش في لبنان للحفاظ على الجغرافيا اللبنانية بدون تقسيم , أكيد أن هناك انقساماً بين الطوائف والتيارات السياسية وأن لبنان دائما كان يقف على حافة العودة للحرب من جديد ، لكن لبنان الواحد بقي كاملاً ليوحد اللبنانيين ضد أي محاولة لتقسيمه أو النيل منه حتى لو كان حديثاً لفنانة أو كاريكتوراً على إحدى الصحف .
حدث ذلك على مرأى العالم وتحت رعاية عرّاب تلك الحرب ” نظام الأسد” حيث كانت وسيلته المثلى للسيطرة على لبنان وتصفية خصومه أو من أراد عرابوه في المجتمع الدولي تصفيتهم ، قام بتصفية كل أشكال المقاومة الفلسطينية واللبنانية ، واغتيال الزعامات الوطنية مثل كمال جنبلاط وغيره لتصل الحرب في نهاية أمرها لحل يرضيه وإتمام السيطرة على لبنان والاستفاد تماماً من درسها .
ومنذ انطلاق الثورة في أيامها الأولى سارع الأسد الابن مع مجموعة من الضباط الذين شهدوا الحرب اللبنانية وأداروا ملفاتها عن كثب لسنوات طويلة ، إلى تصدير فكرة أن كل الذين يخرجون في المظاهرات السلمية هم عبارة عن أشخاص طائفيون وإرهابيون ومرتزقة وباحّثون عن إمارات سلفية .
لم يترك طريقة تساعده في تحويل الثورة وتصديرها على إنها حرب أهلية إلا وفعلها ، عمل جاهداً عبر الاعتقالات والتصفيات والاجتياحات للقرى والمناطق على توجيه الثوار إلى شر لا بد منه وهو حمل السلاح للدفاع عن أنفسهم وقضيتهم، وأطلق الراديكاليون من سجونه، وأرخى الحبل للراديكاليين من الطائفة العلوية ليعملوا الذبح في مناطق الثورة ، واستقدم فصائل من الخارج للدفاع عنه على أساس طائفي بحت وعلى رأسها حزب الله اللبناني ، ذلك الحزب الذي حاربه في لبنان قبل أن يدجنه لصالحه و بات اليوم مستميتاً في الدفاع عن الأسد في شتى الساحات منذ دخوله بشكل علني عام ٢٠١٢ للقصير ومن ثم القلمون وقتاله اليوم على عدة جبهات في سوريا أهمها حلب، كما قام باغتيال واعتقال النخب الوطنية التي ترفض رواية الأقليات والانجرار لحرب أهلية من اغتيال مشعل تمو إلى اعتقال عبد العزيز الخير إلى غير هؤلاء ، مفرغاً الساحة لانفصاليين يساعدونه على خلق فرصة في الحرب الأهلية ومتطرفين وجدوا ضالتهم في سوريا لممارسة أفكارهم وعقائدهم ، ونشر سياسة الخوف من الآخر ليكون هو حامي كل “الآخرين” ، وأصبحت سوريا ساحة صراع وحرب باردة وتمرير الاتفاقيات والتحالفات الجديدة .
إحدى صور الحرب اللبنانية
صورة من مدينة حلب
علم الثورة في المظاهرات الأخيرة الذي طغى على كل الساحات، ووقوف الكثير من الكرد ضد إعلان الفيدرالية ، وبيان بعض قيادات الطائفة العلوية الأخير، وغيرها من السلوكيات التي يحدد أصحابها من خلالها وبطرق مختلفة قناعتهم بأن ما تناشد به الثورة من حرية وعدالة وكرامة ومساواة ومواطنة وتعدد سياسي هي الحل لا مايسعى إليه الأسد ، كل ذلك يحجم إلى اليوم محاولات الأسد التي لا يبقيه في مكانه إلا نجاحها في بعض الأحيان.
شباب لبنان الذين وقفوا على أعتاب هذه الحرب مستعينين بذاكرة قريبة جعلتهم أكثر وعياً وأشد قوة في مواجهة ما أفرزته الحرب الاهلية من تهجير وفرز ديني وطائفي ، فنراهم حاضرين في كل وقت للتعبير عن امتعاضهم من كل ما يعترض لبنان بديمقراطية رائدة وسخرية محببة وفكرٍ واعٍ ، والشباب السوري مُصر وبالرغم من كل ما يجري على أن ما آمن به وسعى إلى تحقيقه هو ثورة حقيقية لكل السوريين مهما حاول البعض أن يغطي حقيقتها. لن يستطيع نظام الأسد قتل روح الحياة في نفوس الجيل الجديد الذي سيتجاوز هذه السنوات ويعيد بناء سوريا لكل السوريين ، ربما لن تكون كما يجب ولكنها ستكون في كل وقت تراهن على أبنائها في حمايتها من كل المشاريع الساعية إلى إنهائها وتدميرها .
في ذكرى الحرب الأهلية اللبنانية المؤلمة للسوريين واللبنانيين والفلسطينيين عموماً لما قدموه من الدماء قرباناً لديكتاتورية الأسد تتشابه الصور الواردة ، وربما وإلى حد معين يتطابق حجم الدمار في شكله ومضمونه لما خلفته من مدن مهدمة وعائلات فقدت الكثير من أبنائها بين قتيل ومعتقل ومختفي و مهجر و منفي ، وأكثر من 170 ألف قتيل خلفته الحرب والكثير من المعتقلين الذين يتحمل الأسد الجزء الأكبر من ملفهم ، وإن كانت النسبة في سوريا قد تجاوزت هذه الأعداد يبقى المجرم الذي خلّف كل تللك المعاناة والدمار واحد هو “نظام الأسد” .
في هذه الذكرى على السوريين أن يعوا درسها جيداً فافرازات الحرب دائما ما تكون أشد فتكاً من الحرب نفسها , وأن يسعوا للحفاظ على هذه الانتفاضة كـ ثورة شعبية قامت من أجل بناء وطن يليق بالسوريين جميعاً على اختلاف مكوناتهم .