مصطفى حسين .
يضع محمد عابد الجابري معالجتَه لقضيتَيْ "الديموقراطية وحقوق الإنسان" مسترجعاً في هذا الكتاب العديدَ من المفاهيم حولهما منذ بداياتهما في الحضارات السابقة حتّى التطوّر إلى الشكل النهائي في الفكر الأوروبي الحديث، ويعمل في تحليله على مقاربة هذا الفكر بما يقابله في الفكر الإسلامي القديم. يبتدئُ الجابري حديثَه عن الديموقراطية وحاجة الإنسان إليها في كلّ العصور، مبيناً أنّ مضمونها لن يجدَه الباحث في الموروث الغربي "اليوناني والروماني" ولا في الموروث الإسلامي "الشورى"، فهل الديموقراطية هي حقيقة "حكم الشعب نفسه بنفسه" ؟؟ ـ الذي هو معناها اليوناني ـ ، يقول المؤلف: " إنّ حكم الشعب نفسه بنفسه لا يمكن أن يكونَ له مجال للتطبيق إلا في إحدى المدن الفاضلة، وقد حلم به متخيلوها لتكونَ ملجأً لهم عندما لم يجدوا موضعاً لهم في العالم الواقع لتطبيق آرائهم ومُثُلهم، وعند الرومان في العصور الوسطى كانت تأتي بهذا المعنى عند الحالمين بمجتمع لا يُقسّم فيه أفراد الشعب إلى سادة وعبيد" .
وتعني الديموقراطية بحسب "الجابري" في العصر الحديث الانتخاب وصندوق الاقتراع حيث يجب أن يُعطى هذا الحق لجميع أفراد الشعب .
ثم ينتقل الجابري إلى تفسير العلاقة بين الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية، ويخلص إلى القول بأنّه لا يمكن للديمقراطية الاجتماعية أن تتحقق دون الديموقراطية السياسية، وأنّ هذه الأخيرة هي وسيلة للأولى، وهي أيضاً هدف في ذاتها .
تحليل الموروث الإسلامي
يعترض البعض حول بعض الأحكام الفقهية الإسلامية بسبب منافاتها لمبدأ الحرية، كالحكم تجاه المرتد والأحكام التي تخص المرأة في الميراث والشهادة وغيرها، أما الجابري فكان ردّه معتمداً التحليل الموضوعي، فقد بدأه بالإشارة إلى أنّ مفهوم الحرية اللغوي يختلف بتقدم العصر، ثم لحقه بإشارة أخرى وهي أنّ الشريعة الإسلامية كليات وجزئيات، والأصل في الحكم الصادر في الجزئي أن يكون تطبيقاً للمبدأ الكلّي، والإسلام ـ حسب الجابري ـ يقر مبدأ الحرية في المجالات كافة، والمرجع هو القرآن: " إنّا عرضنا الأمانة على السموات والأرض فأبينَ أن يحملْنَها وأشفقْنَ منها وحملها الإنسان" ، فاختار الإنسان بكامل حريته حمل هذه الأمانة .
ولعلاقة هذه القضية بحرية العقيدة، فقد أورد الجابري العديد من الآيات القرآنية التي تحدد حرية الاعتقاد، منها: "من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، فهذه الآية وغيرها من آيات تحدّد حرية الإنسان في الإيمان، أما حكم "الردة" فهو في آية: " ومن يرتددْ منكم عن دينه فيمتْ وهو كافر فأولئك حُبطتْ أعمالهم" وأيضاً في: " ومن كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم" فهنا حكم المرتد هو لعنة الله وغضب منه إضافة للعقوبة الأخروية .
أمّا عن موقف الإسلام تجاه المرأة وحقوقها في الحياة العامة والخاصة، فالإسلام يقرر كحُكْم عام المساواة بين الرجل والمرأة، كقول الله: "إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم"
وعن حقوق المرأة يقف الجابري عند الإرث ليورد الآيات التي تنص على الحكم فيه، كقوله: "يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثلُ حظ الأنثيين" وقبل أن يفسّر حكم القرآن في إرث المرأة، يصف المؤلف حال المجتمعات العربية آنَ نزول الآية التي يحكمها النظام القبلي، وإنّ الزواج في هذه المجتمعات لم يكن علاقة رجل بامرأة بل كان "مصاهرة" أي علاقة بين قبيلة الزوج وقبيلة الزوجة، ففي هذه الحال يجد التبرير العقلي لهذه المسألة، وهي الحفاظ على أموال القبيلة كي لا تتبدد عند زواج البنات، وكذلك في الطلاق وتعدد الزوجات، فالإسلام لا يوجب تعدد الزوجات ولا الطلاق، فقد كانت هاتان الظاهرتان سائدتين قبل الإسلام ، فلما جاء الإسلام وضع شروطاً لهما تقترب من المنع أكثر من الإطلاق، لذا فقد اشترط في تعدد الزوجات العدل: " فإن خفْتُم ألا تعدلوا فواحدة" وفي آية أخرى: " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصْتُم" .
ويختتم الجابري كتابه بالدعوة إلى الاهتمام بالتنمية البشرية في الوطن العربي والعالم الإسلامي، والتي يرى أنه يجب أن تقوم على تنمية التفكير في حقوق الإنسان كما يقررها القرآن والأحاديث النبوية، ويقول:" إنّ هذه الحقوق، كحق الحياة ـ أولاً ـ وكحق التمتع بها، وحرية الاعتقاد والمعرفة، وفي الاختلاف وفي الشورى والمساواة والعدل إضافة إلى حقوق المستضعفين، هي الحقوق الأساسية التي من دون توافرها وتمتع الناس بها لا يمكن تطبيق الحدود الشرعية تطبيقاً لا لبسَ فيه ".
في هذه الظروف التي ينقسم فيها السوريون إلى تحزبات فكرية عديدة، بعضها يصل إلى التطرف، نجد أنّه من الضروري علينا تناول وتداول هذا الكتاب للاطلاع على قراءات وأفكار جديدة نساهم فيها ببناء المجتمع والدولة التي كثيراً ما حلمنا بها .