السياسة لا تُحاكُ بأصابع نظيفة؛ فالتغيّراتُ السياسية تقتضي أن تضحّي بجزء من تحالفاتها وأفكارها وشخوصها بحسب مقتضيات الصراع القائم كي لا تقفَ عجلةُ التاريخ، وفي الوقت الذي تنزاح فيه المعطيات العامة للأفكار التطرفية في العالم وتنهار المنظومات الحزبية التي تشكل عبْءاً على الدول التي ما زالت متمسكةً بها، فتترنح تحت سطوتها قبل السقوط في هوة التعدّدية الحزبية التي ستسحب البساطَ من تحت الأحزاب الحاكمة .
بنظرة بسيطة إلى السبب التاريخي في سقوط حكم القياصرة في روسيا نجد أنّ الخسارات العسكرية المتتالية التي تكبّدها القيصرُ الأخير “نيقولا الثاني” من خسارته أمام اليابان، وزجِّ روسيا في الحرب العالمية الأولى حتّى دون التجهيز المسبق لها، الخساراتُ التي مُنِيَ بها في هذه الحرب؛ كانت أهمّ الأسباب في انهيار حكمه، إضافةً إلى الجوّ العام السائد في ذلك الوقت، والحركات التحررية وأفكارها التي بدأت تتغلغل في بنية المجتمعات، كل هذه الأمور جعل الأحزاب تنشأ كحالة بديلة عن الإمبراطوريات في القرن العشرين، وهيّأت الظروفَ للحزب الشيوعي “اللينيني” لإنشاء الدولة الفتية التي قضتْ على نظام “القياصرة”، واستطاعت أن تقودَ الجمهوريات السوفييتية لثمانية قرون، وتبرزَ من خلالها كقطبٍ عالميّ استطاع فرض معسكره على الكثير من التحالفات العسكرية والسياسية التي كانت تعاني من حالة التخبّط والتيه، ولتجدَ أيضاً بمقارنة بسيطة مع الحالة التركية انهياراً متزامناً للـ”سلطنة العثمانية” ولنفس الأسباب تقريباً، وظهور “التنظيمات الليبرالية” في ذلك الوقت لتتمثلَ في حزب “الاتحاد والترقي” وليبرز “أتاتورك” كقائد للحركة التركية الوطنية، ويُلغي الخلافة الإسلامية ويعلنَ تركيا دولة علمانية، بانياً نظاماً جمهورياً في تركيا الحديثة يحاكي ما بناه لينين في روسيا ويتزامن معه .
الظروفُ السياسيّة المواتية، و حالة الترهل في المؤسسات الحزبية، وانهيار الحزب الشيوعي اللينيني واضمحلاله بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وتقسّمه، أدّى إلى بروز فكرٍ جديد لا يشبه إلى حد ما حالةَ الانتماء الحزبي التي كانت سائدةً والتي تمخّض عنها حزب “روسيا الموحدة” صاحب الأيديولوجيا التي تتبع وتفهم الخط العام الذي تسير عليه السلطة، والتزم بتعليمات رئيس الدولة والبرامج المحددة من قبله .
هنا نحن لسنا أمام حالة حزبية صحية؛ بل أمام حالة تطرفية لفكرة تشكّل ” قيصر جديد” وإعادة روسيا القيصرية إلى العلن، التي وجدتْ ضالتَها في شخص “بوتين” والذي بدورهِ بدأ فعلاً بتهيئة الظروف المناسبة معتمداً على ترويض الأقليات، وممارسة القمع والابتعاد عن الحريات، لتصبحَ روسيا الدولة رقم 132 في الديمقراطية بالنسبة للعالم و 148 في حرية الصحافة، والدخول في حروبٍ مباشرة يجب أن لا تكون خاسرةً كما حدث في شبه جزيرة القرم وضمّها إلى روسيا عام 2014، والحرب في سوريا لإعادة روسيا إلى الحكم القيصري الذي بدأتْ تظهر ملامحُه .
لا يختلف حلمُ أردوغان عن سابقه بإعادة تركيا إلى “حالتها العثمانية”، وتهيئة الظروف المناسبة ابتداءً من التراجع عن مفاوضات الأكراد التي بدأها في ثمانينيات القرن الماضي بعد نجاح الأخير في الانتخابات الماضية متمثلا ب ” حزب الشعوب الديمقراطي” وإفشال تشكيل الحكومة والدعوة لانتخابات جديدة، مروراً بما يُسمّى ” الديمقراطية الاسلامية ” التي ينتهجها بعيداً عن الحالة العلمانية التي أنتجها أتاتورك وحماها الجنرالات لوقت طويل، ليعودَ أردوغان إلى حالة الخلافة التي يكون لباقي المكونات فيها حقّ الشورى وعليهم حق البيعة، وعدم شق عصا الطاعة .
كلا الحلمين اصطدما بالحالة السورية ووجدا ضالتهما فيها من خلال بروز “بوتين” أمام المجتمع الروسي كقيصر جديد يُعيد لروسيا حالة الهيبة التي فقدتها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ولأردوغان حالة “السلطان” التي انتهتْ بانهيار الدولة العثمانية، واستحالتها إلى “دولة هامشية” .
السوريون الضائعون بين حلمَيْن، الباحثون عن مأمن بين أحضان روسيا أو بين ظهراني تركيا، بين بوتين الباحث عن عمل بعد إسقاط الطائرة الروسية وأردوغان الباحث عن اعتذار بشكل أو بآخر .