علي الاعرج .
هي البلادُ تمتلئ بالتفاصيل، مثل رائحة قيءٍ حاد المزاج.
الآن هي كذلك، مكانٌ للسيريالية البصرية والخيالية، أبطالٌ أسطوريون يؤمنون أنّ خراباً إضافياً لن يؤذي بعد كل هذا الخراب، مفاتيحٌ مدفونة بسلام، وسماءٌ أقل زرقة.
هي البلادُ، قصة مختلفة عن قصص المُدُن، فلا اعداء يطعنون الخيال في حروبٍ كُبرى، ولا أصدقاء يختلفون بشهوات الزنبق.
تطور تدريجيٌّ للحياة، إيمانٌ بأنّ الأبيض هو حُلمُ القديسين، والحالمون يكتبون النعاس نصوصاً، أمّا الآخرون فلهم جهة أكثر بلاغةً.
قُلتَ ذات ليلٍ، أنّ الحياة تمدّك إلى أقصى ما استطاعت من حدودكَ، فلا شيء يُعجبك كما قال الشاعر المُهاجر إلى أبديته. وأنّ الحياة خطواتٌ بطيئةٌ، تتعكز عليها دون وعي. ولأنّ لا شيء يُعجبكَ، أردتَ استبدال الحياة بالحياة، فقلتَ :
- هي بلادٌ جميلةٌ، ما عدا انّ بها بعض الأشياء السيئة، مثلاً : ذلك الرجل الذي يبيع روائح البطيخ على طنبُرٍ يشدّه بغلٌ، فلا تعنيه اشارات المرور الحمراء.
أو عاهرة مدموغة برقم حكومي، يُعرف كل شيء عنها، رقم هاتفها، تفاصيل منزلها، زبائنها، لُهاث المراهقين في جسدها، والمريضون في الأخلاق.
فيصيح صوتٌ في الدماغ : نريد عاهرة دون رقابةٍ.
أو شاشة تلفاز تُجبرك على حب شيء لا يُحبُّ، فالحب لا يُكتسبُ.
تقول : هناك الكثير من الأشياء التي لا تُعجبني، فلأجد حياة اخرى. بعد عام، بعد عامين، سأحلم ببلاد كبرى وأكثر شغفاً.
يهدر فيك الحلم، رعشات في الأطراف، خوف حالم، إيمانٌ غريب، وشعور لم تعهده يوماً.
تتأمّل جمال المدينة، يسحرك الشبق العتيق، وتتلو شعراً غامضاً على روحك بصوت مخنوق.
تشعر أنك لست بمفردك، فهناك من يحبون التفاصيل مثلك. تقول :
- إن أردتُ استبدال الحياة بالحياة، فعليّ أن أبدأ من جهتين، جهة أرضية لمفاجأة الحياة، وجهة توازي الدماغ للتنقيب في الصخور المُقابلة عن الاختلاف.
يُتعبك التفكير ويرتبك القلب، فالسلوك أبسط وأكثر راحةً، تفتح أبواباً لأفكارك، تتسارع الأشياء في روحك، وتبدأ رؤاك في فن جديد، لوحات اكثر اضطراباً. تقول :
- للفرس كبوةٌ في الاختيار وللريح هفوة في الانتظار. إنها الحياة.
بلادٌ غريبة هي. متناقضات في الناسوت واللاهوت. اختياراتٌ صعبة التوافق بين الحلم وواشم الحلم في ذاكرة النوم، صور تتسارع مثل صقيع يهبط على الروح فتشعر بوخز العاطفة وانكسار الماء فيكَ. تقول :
- تعجبني الأشياء الجديدة، منها : ارتفاع الادرينالين في الدم، حواسك المُتنبّهة لأي هجوم محتمل من الوجود، أصابع صديقك وهي تنقر على أصابعك ذات مساء متوتر، أن، احذر من خطا الخطوة. يعجبك خوف أمك وحزن أبيك عليك لأنه يؤمن بك. ويعجبك السير سريعاً في السحاب، ويعجبك مرض العاطفة والخيال في الضباب.
تصحو ذات نهار على ايقاع غريب، فتخسر الكثير من الاشياء، تفقدها بالتدرج المثناهض. تقول :
- إن كان الآخرون يرون مالا أراه، فربما كانوا اكثر حكمة، لكن الحكمة ليست حكراً للمؤمن بها.
تمشي في الشارع المؤدي إلى الهستيريا. يؤلمك جنوح شاب حالم بالحياة، ويؤلمك موته المُضاعف، فلا هو حقيقي في تصوراته، ولا اختياريّ في الأبدية. تفكّرُ :
- لا باس ببعض الهزائم، فالحياة مازالت تتسع.
بلادٌ يكسوها موتٌ خفيف على الشرفات. شجرتان منعزلتان أمام منزل مُهدّمٍ. سحابةٌ تتلاشى. قلمٌ سُرق من جعبة فيلسوف، ووعي أكثر ارتباكاً. وأشخاص يتساقطون بقسوة في حلمك كحبات بَرَدٍ. تفكّر :
- إن الحياة الجديدة تُوجع الغياب، اصدقاء نافذون في الروح، ووقتٌ أكثر هذراً.
تؤمن مثل أبطال الكتب بمقارعة الأوهام والانتصار على الحليف والحبيب. تُذخّر روحك بالزئبق المُتلاشي. تُطلق العِنان للحياة المختلفة، فتُصيب أكباد الخصوم، ويتقرّح المعي في داخلك بالبُطلان. تفكّر :
- ماذا فعلتُ، وماذا اردت من كل الحكايات والخرافات ؟. سأتلو في المنزل قصيدة وأنام.
تخرج إلى مكان من مكان، يلفعك الهواء وأعين حراس أشجار الزيتون، تتأبط بهدوء كل المسافة إلى الخبو الجريح في دمكَ. تقول :
- لا شيء كان يُعجبني، ثم اعجبني لأني أردتُ اختلافاً أكثر حضوراً، لكنه ليس كما تصورتُ. إن الموت يهزم الحياة، والحياة اكثر أنوثة في ذاكرة الدم.
هي البلادُ، تمتلئ بالتفاصيل وأوهام الخلود الزائف … هكذا تحبها أكثر، وتحيا بها أكثر من ملائكة اللاهوت.