فوكس حلب

مجلة الكترونية تغطي أخبار محافظة حلب وعموم الشمال السوري.

الحب في زمن الثورة

الحب في زمن الثورة

 

خرجت من البيت صباحاً عازماً على قراري، على المضي، كما في تلك اللحظة التي ألقيت بها نظرة إلى البعيد، وقلت لها وكأني أرى الهاوية والجحيم وجيوش العالم في وجهي.. "سنتزوج مهما كانت النتيجة". وقرعت الجرس، سمعت صوت القفل، مقبض الباب يتحرك، الباب يفتح، صافرة قوية، وصرخة أقوى من صرخة بعث، وصوت كأنه زج بالخطأ في هذا العالم: "برمــــيـــــــل"..

أخذ الضوء يخفت، أصوات بعيدة تبحث عن أحياء، هل أنا حي؟ هل أنا من الأحياء؟!

"لارا.. ياسمين.."

تعود الصورة كومضة كاميرا، ما الذي حدث؟

"لارا.. ياسمين.."

أُكرر هذه الأسماء وأصيح بصوت مشروخ، منهك، كشريط تسجيل قديم تآكل من الرطوبة. رفعت رأسي،

كنت ممدداً على بطني، رأسي صوب الأرض، رفعته قليلاً، بصعوبة، ثقيل جداً، والألم يضرب كإزميل من كل صوب، خيط من الدم يسيل بغزارة، هل هو من رأسي؟ حاولت أن أحدس مصدر الدم، بدا وكأن السماء تمطر دما بغزارة، دم وتراب وغبار ودموع ربما، وقيح وذاكرة مهشمة، يعترض خيط الدم شق شفتيّ يتجمع فيه، فتحت فمي، المذاق اللزج المجبول بمرارة السقوط.

– ياسمين..

الصوت المجروح والاسم الذي لا يُنسى، "ياسمين.." تمتمت، "يجب أن أجد ياسمين" مددت ذراعي، ضغط على أصابعي، هل جسدي كله معي؟ لم أكن أعلم، لم أكن أحس بأجزائي، جذبت جسدي بقوة، سعلت بحدة، ضغط الألم كجلد السياط سرى في كل جسدي، يجب أن أجد ياسمين، "ما هذا؟" توقفت، كانت ساقاً ممزقة، بركبة وقدم، قدم حافية، وساق ترتدي بقايا "بيجاما" وردية.

عادت بي الذاكرة…

تذكرت حين انحنت قليلاً وتناولت حذاءً فضياً، "سيكون جميلاً مع فستان أسود، أليس كذلك؟". وابتسَمَتْ.. وابتسم العالم أجمع، "ما رأيكِ بالذهبي؟" اقترحتُ عليها. أومأت برأسها موافقة، تناولت الحذاء الذهبي، خلعت الآخر الذي كان في قدميها، وارتدت الذهبي، وقفتْ أمام المرآة تتأمل القدم بالحذاء، وقفتُ في جنتي أتأملها، "ما رأيك؟". "سندريلتي الرائعة.. من يضاهيك؟". قلتُ. وضحكت بغنج وحياء، مع تلك الضحكة تحديداً لطالماً حلق قلبي، وآمنت بأني خالد..

"هل أدع الساق وأمضي؟" الماضي الممزق أمامي، قطع القلب المبعثرة، واحتضنت الساق وألمي، وقلباً مليئاً بخيبات العاشقين، يجب أن أستمر بالزحف، أخذ الضوء يخفت، وكنت أتبع الصوت، أتبع القدر الذي تعلقت به منذ استيقظت على الحياة، جذبت جسدي بقوة، فتحت عيني.. كانت يداً، اليد اليسرى من الجسد.

تذكرت عندما اشتريت لها المحبس. ورفعتُ يدها، قبلتُ المحبس والإصبع. "هل سيوافق أبي؟" سألت. وطعنني السؤال، استجداء الحب مع كل حرف، صوته في قلبي، طوال سبع سنوات أطرق باب جارنا في كل مرة، "زوجني ياسمين". جاءني الرد: "لن أعطي ياسمين لمسلم لو على جثتي!". "أنت وأبي صديقان حميمان منذ 17 عاماً! أنت وأبي أعز من أخوين! لماذا الآن؟ لماذا الآن؟". في المرة الثالثة، التي عدت فيها إليه. قال: "الجواب لا، تقولون في عاداتكم الثالثة ثابتة". "ولكني أحب ياسمين!". رد "سأوافق، إن وافقت على أن يتزوج ابني كنان من شقيقتك لارا، فكر في الأمر!".

وجاء طلبه كصفعة، كدلو ماء مثلج سقط فجأة فوق رأسي، "هل كان يلوي ذراعي؟" ولم أنم تلك الليلة، "ولماذا لا أوافق على أن تتزوج شقيقتي من كنان؟" وحرّك العفن الراكد في أعماقي، "هل الأمر محرماً؟ لا لا! لم أؤمن يوماً بدسائس الأديان التي تفرق بين الناس”، وتقلبت في الفراش، "لم لا يتزوج كنان من شقيقتي؟ هل يحب كنان شقيقتي؟ مثلما أحب شقيقة كنان!". لم أكن رجلاً رجعياً في يوم، لم أؤمن بأحقاد التاريخ وصليل سيوفه، آمنت فقط في هذا العالم بفنجان قهوة وصوت الشِعر داخلي وياسمين.. والحب الذي لم أؤمن بشريعة فوقه،

"فليتزوج كنان من شقيقتي، لا، لم أفعل ذلك لأجل ياسمين، سأقول له ذلك، حتى لو رفض أن يزوجني ياسمين، سيتزوج كنان من شقيقتي”.

"ياسمين.."

وسقط رأسي على اليد، أشتم بقايا عبق حي، أراوغ قلبي، يجب أن أحمل اليد مع الساق وأصحبهما معي، كيف أدع أجزائي مبعثرة وأمضي؟ لأول مرة في حياتي ألمس قطعاً من روحي، علي أن أستمر بالزحف.. ما هذا؟ رأس بشعر كستنائي مبعثر، عينان لوزيتان محدقتان برعب على وسعهما، وفم مفتوح على صرخة، ووجدت نفسي وجها لوجه مع نفسي. مع سبع سنوات من الشغف والشوق والفرح والحزن، مع الرفض المستمر لإلتقاء الإنسان بالإنسان، مع وجه لطالما غمرته بقبلاتي، قطفت منه خلودي، أضفتُ بكل قبلة يوماً آخر فوق عمري، ونظرت أمامي، بوابة من العتمة، تشبه اللانهاية. "هل أعود؟ لأجل من؟ وكل القطع التي معي؟ لم أملكها كاملة! لم نكن يوماً بشراً كاملين.."

أردت جاهداً أن أصنع من نفسي إنساناً كاملاً، وانهمرت دموعي، تأملت العينان، لم أعشق شيئاً في هذا العالم كتلك العينين، كانتا الأرض التي أقف عليها، صلابتي وضعفي، جنوني وعقلي، خلودي وموتي، رجولتي وهزيمتي، وبما تبقى من ضوء في روحي طبعت على الرأس الذي دفع ثمن آثام وغباوات وأحقاد العالم كله قبلة، لماذا دفعت ثمن آثامهم وأحقادهم؟ أشباح تاريخهم؟ أوهامهم وضلالهم؟ كل ما أردته فنجان قهوة وقصيدة وياسمين، هل كان ذلك كثير جداً؟ هل كان ذلك أصعب من أن يتقبله العالم؟ هل كنا عبئاً كبيراً على هذه الأرض؟ هل فاقت مساحة حلمنا مساحة هذا الكون؟

عادت بي الذاكرة مرة أخرى.. "بماذا تحلمين يا ياسمين؟"، قالت:"أن يكون صدركَ بيتي، بماذا تحلم أنتْ؟"، "أن أسكن عينيكِ..”. وأي معنى للعودة إلى الضوء؟ جذبت الرأس إلي، إلى صدري، لعلي أحقق بعضاً من حلم، بقايا قطع منه على صدري. ربما بسبب شدة الظلمة، وجدت نفسي، لم أستطع تقدير أي مسافة، سعال منهك لبقايا روح. "لارا.. ياسمين.."، بدا الصوت يكرر بشكل آلي كلعبة بمسجل صوت تحطمت ولم يبق غير الصوت عالق على شفتي. ناديت: "أبو كنان؟"، "أجل". أجاب بوهن. وزحفتُ، تلمست جسده بيدي، ولمحت دموعه تنهمر. "أنا هنا يا أبو كنان". قلت وابتسمتُ مواساة.

وضعتُ يدها بيننا والساق والرأس، كلانا عثر عليها في الوقت الخطأ والزمن الخاطئ. أمسك بيدي، وضعها فوق يدها، وضع يده فوق يدينا، احتضن اليدان بكل ما تبقى من قوته، ابتسم بآخر وميض من حياة: – "قد زوجتك ياسمين"..

سماح الماغوش