"لم أعد اليوم طفلاً يشاهد الرسوم المتحركة ويخرج للعب في الحديقة المجاورة كباقي الأطفال، لست اليوم سوى رقم من أرقام كثيرة تُعرض على شاشات التلفزة، أنا رقم من أعداد الرازحين تحت القصف، ورقم من الذين أصبحوا في صفوف المتخلفين عن الدراسة ورقم عند المنظمات الإغاثية".
مُحدّثك الآن هو محمود طفل في العاشرة من عمره، وكهل في المئة من روحه، وبهذه التركيبة الغريبة أستطيع أن أخبرك عن إنسانية قضت نحبها، وطفولة تنتظر. "دوماً ما تصفني والدتي بأنني فضولي, ولعل فضولي هذا يساعدك على معرفة ما يلم بنا من نوائب على مستوى اليوم.. لا الشهر ولا حتى السنة، فالمأساة هنا تتبعها مأساة، وتتكاثر الهموم لتسقط كما البراميل على أفئدة البشر".
"كنت في السادسة من عمري حين سمعت للمرة الأولى هتافات المظاهرات التي إنطلقت من مسجد قريب من منزلي، دقائق معدودة وعبّر الرصاص عن غضبه مصيباً عدداً من المتظاهرين الذين كان من ضمنهم والدي، وفي الوقت الذي أتوا به إلى منزلنا لسحب رصاصة كانت قد اخترقت قدمه اقتحمت قوات الأمن منزلنا وأوسعت أبي ضرباً وشتماً قبل أن يعتقلوه، وكانت هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها كيف يقهر الرجال”.
"صورة أخرى عالقة برأسي من سنوات لا تكاد تفارقه، صورة الطفل حمزة الخطيب، في ذلك الوقت ورغم صغر سني كنت مصراً جداً على تكرار رؤية صوره في كل نشرة أخبار تتحدث عنه، وبالرغم من أنني لم أكن أعي ما حدث فعلاً بجثته, ظللت فترة طويلة بعدها ملاصقاً لأمي ومتعلقاً بها لشدة خوفي مما رأيت”. "تطورت الأحداث بسرعة كبيرة لا تتناسب أبداُ مع مقدار فهمي لما يحصل".
"الثوار تلك الكلمة التي طالما أطربتنا في المسلسلات التي تتحدث عن شجاعة الثوار وقوتهم، باتت تشكل خطراً علينا إن تجرأنا على لفظها، وخصيصاً بعدما سمعت عمي يتحدث همساً وبسعادة كبيرة مع بعض رفاقه عن إقتراب الثوار من دخول منطقتنا لتحريرها، ونظراً لإنبهاري بتلك الكلمة ظننت أن ملائكة من السماء ستهبط علينا لتقضي على الأشرار الذين يقتلون ويدمرون ما أرادوا، ويخلصون أبي من السجن، الذي فُقد من لحظة اعتقاله ولا ندري بأي سجن أو فرع أمني موجود، ولا نعلم إن كان على قيد الحياة أم مات تحت التعذيب في أقبية النظام المخصصة للتفنن في التعذيب، أبي لم يكن من بين شهداء النهر، وهذا ما يجعل الأمل في لقائه موجود. ومنذ دخول الثوار لحينا صب النظام غضبه علينا بشتى أنواع القتل العام لسكان الحي فهو يقصف المدنيين فقط ومقرات الجيش الحر لا تمسها القذائف ولا البراميل ولا الصواريخ!!".
"أما عن المدرسة التي لم أبق فها مدة طويلة، فأنا اليوم مشتاق جداً إليها، 4 سنوات مرت يفترض أن أكون اليوم في الصف الرابع إلا أنني لا أعرف سوى كتابة بضع أحرف وأرقام تعلمتها سابقاً، الأمر الذي كان يقلق والدتي كثيراً، ثم ما لبثت أن تجاهلته بعدما شاهدت قصف عدة مدارس في المدينة من قبل النظام. الأمر الذي جعلها تفضل أن نموت معاً على أن تخرج للبحث عن جثتي بين جثث شوهتها البراميل".
"وبدلاً من أن أكون في صفي، أمارس "حقي" في التعليم الإلزامي –بحسب النظام الذي يقتلنا- أجلس يومياً لأتدرب على قدرتي على التنفس في حال كنت يوماً تحت الأنقاض، فأقرب مكتباً صغيراً من سريري ثم أحشر نفسي بينهما وآخذ شكل القوقعة، وأتفق مع أختي أن تلقي عليّ الكثير من الوسائد والأغطية لأقدر كم من الزمن يمكنني المكوث بهذا الشكل".
"من النافذة، كل يوم كنت أراقب ما يحدث في الخارج، كثيراً ما كنت أرى أطفالاً تحمل المناديل الورقية وأشياء أخرى خفيفة لتبيعها للسيارات والمارة، وعندما سمعت بقصة الطفل مصطفى صاحب الإبتسامة الجميلة الذي كان يبيع البسكويت في أحد الأحياء حيث طالته شظايا أحد البراميل ليموت على أثرها، بدأت أتوقع نهايات لكل الأطفال الذين يتجولون، فأحدهم سيقتل ربما برصاصة قناص وآخر بقصف للطائرات، وكلما أخبرت والدتي بهذه الأفكار التي باتت تسيطر علي، أراها تهدئ من روعي وتخبرني أن الأطفال الذين ماتوا أصبحوا اليوم طيوراً في الجنة، و دائماً ما أتخيل منظرهم بل وأحسدهم على ذلك، باتوا بأجنحة يستطيعون التحليق متى أرادوا ويستطيعون اليوم أن يتفادوا البراميل ويحلقوا بعيداً عنها، وتركوني وحيداً أحيا حياة الموت".
"نعم، ضلت الحياة طريقها عنا، في وسط هذا الموت اليومي لم نعد نرى إلا القليل من الأمل في قدرة رجال الدفاع المدني على استخراج أحدهم حياً من تحت الأنقاض، وما عدا ذلك لم يتبق لدينا أية توقعات لمستقبل يخلو من القصف، نحن الذين ظننا يوماً أن تحرير مناطقنا سيجعلنا بمأمن من ظلم النظام، لكننا نسينا أن تحرير الأرض لا يقدر على مواجهة قذائف الموت المصوبة إلينا من السماء".
"أنا اليوم رقم، وربما غداً سأكون مجموعة من الأشلاء, تبكون عليها قليلاً بحكم العادة، دقائق قليلة ثم تعودون لتكملوا يومكم بطريقة طبيعية”.
رودس