منذ بداية الثورة في سوريا، فقد آلاف الأطفال بيوتهم، ومنهم من فقد أهله كلهم أو قسم منهم. فوجدوا أنفسهم مشردين أو مهجّرين، إما في الأرياف أو مخيمات اللجوء الحدودية أو في دول الجوار.
حمل معهم هؤلاء الأطفال بقايا طفولتهم وبراءتهم, ولكن لم يتركهم شبح الحرب الذي اغتصب أحلامهم وغيّر حياتهم من لوحة جميلة إلى مشاهد سوداء من الدمار يتخللها لون الدم وأصوات الرعب والموت.
ولكي يسترجع الأطفال اللاجئون بعضاً من حقوقهم في بلاد اللجوء كلبنان مثلاً، حاولت جمعيات ومنظمات غير حكومية معنية (بشؤون حقوق الإنسان عامة والأطفال خاصة)، بتفعيل مشاريع “دعم نفسي – اجتماعي”.
أُتيحَ لي أن أعمل ضمن تلك المشاريع وذلك عبر استخدام العلاج النفسي بواسطة الفن (art-therapy) لمساعدة الأطفال على التعبير عن أنفسهم بطرق غير تقليدية. وبالتالي إحالتهم إلى مختصين في حال وجد عندهم صعوبات يمكن أن تعرقل نموهم النفسي والفكري والجسدي، كالتي يعاني منها غالبية أطفال سوريا حتى الآن.
أعراض الصدمات النفسية للأطفال
منذ بداية الثورة يتعرض الأطفال إلى أحداث مريعة، ما نتج عنها صدمات نفسية كثيرة. يعبّر عنها الأطفال بطريقتهم الخاصة وغير مباشرة بردود فعل أو حالات نفسية وجسدية تدل على وجود صدمات نفسية، وتتلخص كالآتي:
– الشعور بالخوف وبالأخص عند حلول الظلام أو عند الابتعاد من الأقرباء.
– القلق دون سبب معين والبكاء.
– التعلق المفرط بالأبوين والخوف من أن يبتعدوا عنهم.
– الرجوع إلى سلوكيات أكثر طفولية مقارنة بسنهم كمص الإصبع، التبوّل اللاإرادي في الليل والتكلم بطريقة طفولية.
– النشاط المفرط والحركة الزائدة، وعدم الالتزام بالنظام والتصرف للفت انتباه الآخرين.
– أعراض جسدية من دون أن يكون لها سبب مرضي كوجع البطن والصداع.
– فقدان الشهية وعدم القدرة على النوم ورؤية كوابيس.
– الشعور بالحزن والانسحاب من المجتمع والميل إلى الصمت.
تُلاحظ هذه العوارض غالباً عند كل الناس الناجين من كوارث طبيعية أو حروب كالتي تحصل في سوريا منذ عام 2011.
وقد أثبت (العلاج النفسي عن طريق الفن) نجاحه مع الأطفال وتقبلهم له، لأنه أبعدهم عن الطرق التقليدية في سرد ما حدث معهم لعدة مرات وكأنهم تحت التحقيق, مما يجدد آلامهم بتذكر ما جرى سابقاً.
وعلى رغم ضرورة التكلم عما حصل لمساعدة الأطفال، تكون أحياناً الكلمات غير كافية، وإعادة التكلم عن الحادث الأليم يضع الطفل في مكان نفسي ضيق لا يسمح له بالتفاعل مع العالم الخارجي الجديد والتأقلم معه إذ انه يصعب عليه تخطي الصدمة. وبالتالي، العلاج النفسي بواسطة الفن يساعد الأطفال على التعبير بشكل غير مباشر عن مشاعرهم وعلى استنتاج نظريات تتعلق بالحياة، "علماً أن ما يصنعوه فنياً ناتج عما يكمن بداخلهم".
فاللجوء إلى الرسم مثلاً، بعد سماع رواية تتعلق بموضوع الفقدان أو الأمل، يفتح لهم المجال لمشاركة ما يؤلمهم أو يفرحهم بشكل ترفيهي.
أحد الأمثلة عن هذا العلاج هو العمل على موضوع الفقدان والأمل عبر روايات تدور حول (عائلة مكونة من الأب والأم والابن والابنة الذين يعيشون سعداء في مزرعة جميلة مع عدة حيوانات أليفة). فالتطرق إلى ذكر عائلة تقليدية، بيت وحيوانات أليفة يعطي الطفل إحساس باطني بالأمان والراحة.
غاية تلك الجلسات العلاجية تتمثل باستكمال الروايات ورسم صور تتعلق بها ثم التكلم عن النهاية التي يتخيلها الأطفال.
وهذا النشاط مناسب للأطفال عندما يكون المرشد مدركاً لمكوناتهم (النفسية-الاجتماعية).
ومن ثم يطلب من الطفل الذي عاش حادثاً مروعاً، اكمال الرواية، حينها يُجبر الطفل بطريقة غير مباشرة على تفعيل مخيلته والخروج من الواقع لكي يصنع شيئاً جديداً، مع إطار زمني ومكاني محدد (وهذا ما ينقصه في حالة الصدمة النفسية). ويأتي الرسم ليعزز هذا الإطار ولكي يسليه في الوقت ذاته.
مثال على جلسة علاجية مشابهة: "هرب صوص من المزرعة ولحقه الفتى ليعيده وقلقت الفتاة على أخيها فلحقته……".
فكانت تتمة الرواية التي كتبتها “ليال”، وهي فتاة حلبية في العاشرة من عمرها، مضى على وجودها في لبنان سبعة أشهر بعد نزوحها من حلب نتيجة القصف على منطقتها وفقدان أخيها الأصغر سناً.
"وبعدما لحق الفتى بالصوص، وجد نفسه تائهاً في الغابة مع حلول الظلام. خاف جداً ولكن قرر أن لا يعود إلي بيته قبل أن يجد الصوص. بعد دقائق دامت كالساعات،
وجد الفتى الصوص قد سقط في مستنقع مياه موحل وعميق. فهرع لمساعدته للخروج منه ولكن بدوره لم يعد يستطيع الخروج وصاح بشدة للمساعدة. فسمعته أخيراً أخته وركضت لمكان الصوت. وجدته وطمأنته أنها سترجع مع والديها فقال لها "لا تنسي الصوص، انه صغير وبحاجة ماسة للمساعدة". فهرعت إلى بيتها لتطلب مساعدة أبيها. عندما عادوا ليخلصوا الابن والصوص، وجدوا الابن عائماً على سطح الماء وعلى بطنه الصوص، ينتظرهما. أخذوا بعدها جسد الابن ووضعوه في مكان آمن وردوا الصوص لأمه وبيته الصغير…”.
جذبت ليال بروايتها جميع الأطفال الموجودين، وبعدما انتهت، تطرقت ليال لتجربة أليمة عاشتها دون التعبير عنها مباشرةً، فابتسمت ابتسامة كل طفل سوري يعاني مثلها واستنتجت معنى لما روته: " الحياة عبارة عن دائرة، يموت الشجاع ليعيش من هو أضعف…".
فالحياة لا تتوقف أبداً حتى لو كنت تشعر أن الأمور باتت معلقة. فالعلاج النفسي بواسطة الفن يوفر فرصة لمواصلة هذه الحياة للأطفال المصابين بصدمات نفسية وتحويل المعاناة إلى نموذج لمسار حياة جديدة، طبعاً مختلفة، ولكن حاضنة بالرغم من كل شيء.
آية مهنا