من عمق ألبانيا، تلك البلادُ المجبولة بالعقل الصخري والعاطفةِ الجانحة كالريح، المجهولةِ المعالم بطرقها الوعرةِ وجبالها الجرداء السامقة، ينبش الروائي الألباني (اسماعيل كاداره) عالماً خفياً، يُفترضُ على البشر تناسيهِ ليستطيعوا أن يكملوا حيواتهم دون احساس بالقهر والذل. عوالم أمواتٍ بُكمٌ، ليضعها أمام التشريح النظري للأحياء، ويُحيي في الروح ما يحاول البشر نسيانه دائماً .. إنها قضية موتْ. يسرد كادراه منذ البداية بسلاسة الأسلوب وصفاً دقيقاً لما ستتحدث عنه الرواية، ليدخلنا إلى عوالم إنسانية خاصة:
“كانت المفاوضات بين الحكومتين قد بدأت منذ مطلع الربيع”
على هذا النحو يبدأ كاداره في التشريح الأدبي لقضية مهمة وهي جوهر عمله الروائي .. المقايضة الذهنية والصلح. فالشخصية الرئيسية في العمل وهي (الجنرال) يستقل طائرة ويرحل إلى تلك البلاد البعيدة بمهمة رسمية، مع مرافق له (القس). جميع الأعين مُتحلّقة حول الجنرال في مهمته السامية.
(حين نذهب نحن إلى السينما، يبحث هو، يجوب أرجاء الأرض الغريبة، ليجد أولئك البؤساء من أبنائنا .. يا للمهمة الثقيلة ..! هي أشق من مهماتنا حقاً، لكنه سوف يصل بها إلى ما نتوخاهُ .. فليسدد الله خُطاهُ).
إذاً فالجميع مؤمن بقدرة الجنرال على تحقيق هدفه، تلك المهمة الرائعة، الجميع يؤمن بقداسة ما يقوم به. إنه في مهمة ليلملم رفات جنود بلاده الذين سقطو في الحرب، في تلك الأرض الغريبة بين الجبال الجرداء والأراضي الوعرة. يتنقّل الجنرال مع مرافقه القس والخبير وعمال الحفر من بقعة لبقعة، لينبشوا الأراضي ويُخرِجوا رفاتِ جنودهم كي يعيدوها إلى الوطن، فذلك هو هدفهم الأسمى وتلك هي مهمة الجنرال .. حصاد رفات جنود بلدهم وإكرامهم كأبطال ودفنهم في أرضهم.
كل شيء دقيق وتفصيلي ومحسوب .. الجنرال يخرج من حقيبته كل شي \ مخططات الأراضي حيث سقط الجنود \ قوائم بأسماء الشهداء في الأرض الغريبة \ أعمارهم \ طول كل منهم بالسنتيمتر \ تفاصيلهم \ اوراق بمعرفة طبيعة الأراضي والطين \ بحوث في الكيمياء .. يبحثون \ يفتشون \ يجوبون الأراضي ليجمعوا كل موتاهم \ يتعبون \ ينهارون \ يتصببون عرقاً .. كل شيء دقيق ومعلوم لدى الجنرال، إنها مهمة سامية، والجنرال مثقل بأعباء كبرى. فأهالي الجنود الأبطال ينتظرون عودة الجنرال مع رفات أبنائهم.
على هذا النحو يسرد كاداره عمله بسلاسة كبرى وبخط واضح لشكل العمل الأساسي دون ان يفصح عما يختلج في داخله من ألم لفكرة تعانده وتمنعه من اكمال قصة تجاوزت حدود رجل يبحث عن أموات.
تلك الاحداث اللحظية، الروتينية، الهادئة، المثقلة بالفراغ مثل أراضي ألبانيا التي لا تشتمُّ في صفحات ذلك العمل غير الموت الذي لا ينتهي، بلغتها البسيطة وتركيب شخصياتها المُعقّدة.
من ذلك السرد الروتيني والبسيط، يلوح في أفق الصفحات سؤال مثل السراب، يصفع وجه القارئ بلحظة خاصة، ويجعله يعيد النظر بقضية هامة هي من اهم قضايا الوجود. بماذا كان يحلم أولئك الاموات ؟ كيف عاشوا في الحرب ؟ كيف ماتوا ؟ والاهم من كل ذلك .. من أجل ماذا ؟.
الجنرال لديه معلومات عن كل تاريخ تلك الحرب، يعلم تماماً ما صار إليه جيشه الميت :
(كانت نهاية محزنة لجشنا في ألبانيا. كل هؤلاء الجنود بالبستهم العسكرية، وأسلحتهم المتنوعة، ورتبهم وأوسمتهم تحولو إلى خدم، إلى عمال في المزارع، إلى رجال كدح وتعب. إن جسدي ليرتعش كلما تخيلت ما يقومون به من اعمال. أتذكر ؟ لقد حدثونا عن كولونيل كان يغسل الثياب ويرفو الجوارب لأسرةٍ ألبانية).
سؤال كاداره الجوهري .. لمَ ؟ جيش باكمله يصبح عبداً أو ميتاً لمجرد هزيمةٍ في أرضٍ ليست أرض أولئك الأموات. ما الذي يستحق كل ذلك ؟ .. الوطن؟
لا يجيب كاداره، لكنه يسرد لتتشكل الإجابة في الذهن البشري.
جنود بلاد الجنرال، رحلوا ليحاربوا في أرضٍ ليست أرضهم، ذهبوا كأعداء .. ماتوا كأبطال وطنيين في نظر الجنرال والقس وقيادة البلاد .. وماتوا كأعداء أبطال في نظر الشعب المُعتدى عليه.
تقول امراة عجوز البانية تحمل الحطب، وقتلت ضابطاً في يومٍ ما:
(لا تخف أيها الجنرال، لقد أعددنا لهم طقوس دفنٍ تليق بالأبطال، كما لو كانوا أبناءنا الألبانيين)
لكن ذلك ليس كافياً بالنسبة للجنرال .. إنه يريد الرفات .. يريد أن يُعيد الجنود إلى الوطن.
ما السبب وراء إصرار الجنرال .. أهي المهمة الشاقة والوطنية المُوكلة إليه؟ أهي الوعود التي قطعها لأهالي الموتى باسترجاع رفات أبنائهم؟ أهي احترام جنود بلاده؟ أهي إكرام اموات لا نفع منهم بعد الآن سوى أن يصبحوا شعارات لبلاد مريضة؟
تقول امراة عجوز البانية تحمل الحطب، وقتلت ضابطاً في يومٍ ما:
(لا تخف أيها الجنرال، لقد أعددنا لهم طقوس دفنٍ تليق بالأبطال، كما لو كانوا أبناءنا الألبانيين)
لكن ذلك ليس كافياً بالنسبة للجنرال .. إنه يريد الرفات .. يريد أن يُعيد الجنود إلى الوطن. ما السبب وراء إصرار الجنرال؟ أهي المهمة الشاقة والوطنية المُوكلة إليه؟ أهي الوعود التي قطعها لأهالي الموتى باسترجاع رفات أبنائهم؟ أهي احترام جنود بلاده؟ أهي إكرام اموات لا نفع منهم بعد الآن سوى أن يصبحوا شعارات لبلاد مريضة؟
الجنرال يعي تماماً من هم أولئك الجنود وما آلوا إليه:
(أجل .. لا يجمع بينهم إلا الموت)
في حديث القس عن المذكرات التي كان الجنود يكتبونها أثناء حربهم وفي أسرهم وقبل موتهم. يعثر الجنرال على مذكرات أحد الجنود المأسورين والذي مات بطريقة لا يعلمها احد. ينتهي الجنرال من قراءة تلك المذكرات. يرميها على أحد مقاعد السيارة:
(لا شيء مهم .. مذكرات عاطفية ممزوجة بمشاعر رجل بكّاء)
الجنرال لا تعنيه كل تلك الأشياء .. الهدف من جمع الرفات ليس لانه يحترم جنوده ولا لوعوده المقطوعة مع الاهالي .. إن مذكرات جندي حارب ومات في سبيل فكرة مجهولة لا تعني الجنرال بشيء.
كاداره ما زال يبحث عن هدفٍ مجهول. الجنرال ما زال يبحث عن كل الرفات .. ما زال يمتلك القناعة المفرطة، بعودة جنوده إلى الأرض الام، إنها قضية أساسية بالنسبة للبلاد .. الموت.
الجنرال عنصر أساسي في الحدث، يقوم بمهمة عظمى، مهمةٌ كبرى بثنائيتين .. الشعب الألباني الذين خسروا أبنائهم وانتصروا على الأعداء .. والاهل الذين ينتظرون عودة رفات أبنائهم الموتى في أرض غريبة.
الجنرال واقع في مطب هذه الثنائية والتي تجسدت في ذهنية الموت. ماذا يريد الجنرال؟
مجموعة من المشاعر الممزوجة والمختلطة والتي لا تعرف إلى قلب الجنرال سبيلاً. الجنرال يفكر، يحدق في ممثلي الشعبين والدولتين. شعبان ودولتان خصوم. يجلسون متقابلين على طاولةٍ واحدة. لا يفصل بينهم سوى زجاجاتٍ من انواع المشروب. نبيذ. وبعض أطباقٍ من الفاكهة. جالسون ليحلّوا قضية موت ورفات. لا شيء آخر فالاموات أموات:
(ألا يفصل بيننا سوى هذا حقاً؟)
وكاداره مازال يفكر بالسؤال الجوهري .. وأولئك الموتى ما هم؟
جيل كامل من الاحلام والبشر قد أُبيد في حربٍ لا تعني لأحد شيئاً من كل ذلك الجيش الميت. وبعد الحرب الجنرال يريد لملمة رفات جنود بلاده الموتى. لكن ما جرى لا يعنيه بشيء، إن له مهمة واحدة .. جمع الرفات.
لكن رفات واحدة لم يجدها الجنرال .. إنها رفات الكولونيل. يختلف الجنرال مع القس .. يجب أن يعيد رفات الكولونيل. لا لشيء .. لكن فشل المهمة يعني أن كل رفات الجنود لن تعني للقيادة أمراً هاماً إذا لم تعد رفات القائد (الكولوني) الذي أبيد جيشه في ألبانيا .. ستفشل المهمة. لن تُستقبل رفات الجنود كما يليق. جيش دون كولونيل لا يجوز.
فالشعارات التي يتم تجهيزها منذ وقت لاستقبال الرفات ستسقط إن كان القائد مفقوداً.
الموت والموتى لا يعنون للاحياء بشيء سوى أنهم خميرة مشروعية لوجود الباقيين من الاحياء.
الجنرال والقس يختلفان حول الكولونيل:
(هل تسمعني أيها الأب ؟ أتيت لنتراضى، لا داعي لشجارنا بسبب الكولونيل. لماذا نتشاجر بسبب كيس؟ إن طوله 1’82 لقد جلبت اللوائح .. سنستعرضهم بالتفصيل. الأمر ليس عسيراً. جميعم من مقاس 1’82 لقد اكتشفت اثنين أو ثلاثة من هذا الطول. اعتقد أيضاً أن طولي 1’82)
الجنرال يريد النجاح. يريد الكولونيل. يريد جيشه الميت كاملاً، فالبلاد ستفتخر بموتاها الأبطال، سترفع لهم الشعارات، سيطلقون النيران تحية لرفاتهم.
كاداره استطاع ان يؤلب جوهر الفكر الإنساني بذلك العمل البسيط. كل الشخصيات الثانوية العابرة في جنرال الجيش الميت، كانت تتحدث عن قضية واحدة، كانت تريد قول شيء واحد .. نحن الموتى كان لنا أحلامنا وحيواتنا، ومُتنا في سبيل لا شيء.
الجنرال يعلم قضية واحدة. الجميع يؤمنون بقداسة مهمته. جمع رفات الجنود .. يا لها من مهمة عظيمة وبطولة كبرى .. رفات الجنود، هي مشروعية بطولتك ووجودك أيها الجنرال.
الموت والموتى لا يعنون للاحياء بشيء سوى أنهم خميرة مشروعية لوجود الباقيين من الاحياء.
الجنرال والقس يختلفان حول الكولونيل:
(هل تسمعني أيها الأب ؟ أتيت لنتراضى، لا داعي لشجارنا بسبب الكولونيل. لماذا نتشاجر بسبب كيس؟ إن طوله 1’82 لقد جلبت اللوائح .. سنستعرضهم بالتفصيل. الأمر ليس عسيراً. جميعم من مقاس 1’82 لقد اكتشفت اثنين أو ثلاثة من هذا الطول. اعتقد أيضاً أن طولي 1’82)
الجنرال يريد النجاح. يريد الكولونيل. يريد جيشه الميت كاملاً، فالبلاد ستفتخر بموتاها الأبطال،
سترفع لهم الشعارات، سيطلقون النيران تحية لرفاتهم.
كاداره استطاع ان يؤلب جوهر الفكر الإنساني بذلك العمل البسيط. كل الشخصيات الثانوية العابرة في جنرال الجيش الميت، كانت تتحدث عن قضية واحدة، كانت تريد قول شيء واحد .. نحن الموتى كان لنا أحلامنا وحيواتنا، ومُتنا في سبيل لا شيء.
الجنرال يعلم قضية واحدة. الجميع يؤمنون بقداسة مهمته. جمع رفات الجنود .. يا لها من مهمة عظيمة وبطولة كبرى .. رفات الجنود، هي مشروعية بطولتك ووجودك أيها الجنرال.