١٥ دقيقة كانت مليئة بالأحداث، رعب وحزن وبكاء وخوف وظلم ومناظر تقشعر لها الأبدان في أحد سجون "تنظيم الدولة الإسلامية".
وصلنا مع وقت صلاة الظهر إلى سجن "تنظيم الدولة الإسلامية” في منبج بعد سفر ٣ ساعات، كانت أبواب السجن مغلقة، انتظرنا ١٠ دقائق حتى أتى أحد العناصر وفتح نافذة الاستعلامات. كان يلبس قناعاً لا يظهر منه سوى عينيه ويحمل بندقية على كتفه، فقال إن “الزيارات انتهت" وأدار ظهره، فقلت له إننا أتينا من مكان بعيد ولم نزر أخي منذ اعتقاله قبل ٤ شهور، فرد علي "قلت لا يوجد زيارات، اذهب من هنا وإلا وضعتك بجانب أخيك بالسجن"، على أي أساس لا توجد زيارات؟، "على أساسي وكيفي أنا وهذا ليس من شأنك”، وأغلق النافذة وذهب.
ثم جاء عنصر ثاني وسألني "ما تهمة أخيك؟”. إنه إعلامي. "أكيد محكوم تبادل أسرى ولا يحق لكم زيارته"، ثم ذهب. عنصر آخر سألني "ما اسم أخيك؟”. فادي. التفت إلى البواب، وقال له "دعه يزوره" ثم قال لي إن "الزيارة ربع ساعة فقط".
دخلنا من الباب الرئيسي أنا وأمي وأخي حسن (١٠ أعوام) وأخي ورد (٣ سنوات)، وكنت متردد الخطوات بدخولي للسجن لعدم ثقتي بهم، ثم دخلت إلى المبنى حيث كان مكان الزيارة عبارة عن بهو محاط بعدة غرف للمحققين والأمنيين وعدد من المقاعد. وعندما رآنا أخي، بدأ يمشي بخطوات سريعة وكان وجهه شاحب اللون وجسمه نحيل وشعره محلوق ويلبس بيجاما ممزقة وقميصاً ليس له وهو يبكي.
كان حسن الأقرب اليه، فضمه إلى حضنه بقوة وبدأ يبكي، ثم رأى أمي وأسرع إليها ممسكاً يدها ليقبلها، لكن سرعان ما ارتمى على الأرض وبدأ بتقبيل قدميها. جلست أمي ورفعته عن قدميها واحتضنته وبدأت تقبله وهو يقبلها ويبكيان كلاهما دون أن يتكلما، وعيون الموجودين وعناصر التنظيم تراقبهم.
أمسكت يديهما قائلاً : "انهضوا, صلوا على النبي، وكلوا الله، الوقت ضيق يجب أن لا نضيعه”. هنا توقف وضمني إلى صدره بقوة وقال وهو يبكي "اشتقت لكم كثيراً وكنت متأكد أني سأراك”، ثم حمل ورد بحضنه وبدء بتقبيله ونحن نمشي باتجاه مقعد وجلسنا.
وكان عناصر "تنظيم الدولة الإسلامية" يمشون بالبهو بين الناس ليسترقوا السمع.
سألته أمي والدموع تنهمر على وجنتيها "كيف صحتك أبني، هل قاموا بضربك أو تعذيبك، هل أنت مريض أو جوعان؟”. فأجاب أخي وهو يلتفت حوله كثيراً وعلى وجهه علامات الرعب، بنبرة حزينة وصوت متقطع وكلمات سريعة "لي ٤ شهور مسجون وكأنها ٤ سنوات، كلها تعذيب و إهانات، هم يصلبوني ويجلدوني بالجنازير".
ورفع كم قميصه لنشاهد آثار التعذيب كان جلده مسلوخ و يتخلل لحمه جراح عميقة.
تابع: "هذا أقل شيء، فإني لا أستطيع النوم على ظهري بسبب الجروح الكثيرة، فهم يريدوني أن أعترف بأي عمل قمت به ضدهم لكي يحولوني للمحكمة"
قاطعته أمي وهي تبكي وتنظر إليه "اعترف بأي شي أبني أحسن ما يعذبوك لأن جسمك ما يتحمل”. فرد باكياً: "سوف يقتلوني إن اعترفت أني عملت ضدهم، فإن اضطررت أن اعترف كذباً لعدم تحملي للعذاب ومت فسامحوني وادعوا لي”. ونظر لي وقال:"الآن اقتنعت بكلامك بعد ما كنت أحبهم وأدافع عنهم، فعلاً لا علاقة لهم بالإسلام”. و أضاف: "لا تسكنوا بمناطقهم، ولا تتعاطفوا معهم، ولا تسمحوا لأحد من عائلتنا أن يبايعهم، فهم لا يختلفون عن النظام بظلمهم وحكمهم".
فسألته أمي وهي تنظر إلى ثيابه الممزقة "أين ثيابك التي كانت معك ابني؟”. أجاب "ثيابي محجوزة عندهم بالأمانات ولم يعطوني شيئاً منها ولن يعطوني إياها لحين خروجي من السجن إليكم أو للقبر”.
نادى المنادي "انتهت الزيارة".
نهضنا، وودعّنا وطلب مني أن أكمل رسالته الإنسانية بتسليط الضوء على حال الأطفال من دون دراسة، وطلب منا أن نزوره إن سمحوا لنا، وطلب من أمي الدعاء له، وكانت أمي تبكي وتطلب منه أن يصلي ويتوكل على الله ويكثر الدعاء "ابني، إن الله معك لا تخف، إني استودعتك عند الله الذي لا تضيع عنده الودائع، وأكثر من قول اللهم لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين"…