بعد أيام من سقوط نظام الأسد، توجهتُ رفقة صديقتي المسيحية من مدينة الحسكة إلى مدينتنا دير الزور لتسجيل رسالة الماجستير، وذلك عقب سنوات من تخرجنا. ثم قمنا بجولة على الكنائس في المدينة للاطلاع على حالها بعد سنوات من الحرب.
طلبت صديقتي عدم ذكر اسمها في هذا التقرير تجنبًا لتعليقات سلبية تقول إنّها كانت ترصدها عند الحديث عن كنائس دير الزور. تقول: “أحنّ للعيش مجددًا في دير الزور ولكنني لا أعتقد بأني سأفعل ذلك، فلا يوجد سوى ستة مسيحيين في المدينة كلها، أصغرهم يكبرني بأربعين عامًا، لاتتوفر كنيسة واحدة يقرع فيها الجرس للصلاة يوم الأحد، ولا رجل دين يمكنه أن يعمّدني، فقد غادر معظم المسيحيين منذ بداية الثورة عام 2011”.
بدأت جولتنا بالتوجه لشارع “سينما فؤاد” في المدينة، وهو سوق لعرض وبيع الملابس والهواتف والتّوابل والعطور، وفيه عدد من المطاعم. الشّارع الّذي انقلب حاله مثلما انقلب حال كلّ شيء خلال سنوات الثّورة السّورية.
أثناء مرورنا بشارع سينما فؤاد عادت بي ذاكرتي إلى عام 2010، حينها كنت أتقصد المرور منه ليس فقط لأنه الطريق الأقرب إلى المعهد الّذي أحضّر فيه لشهادة الثانوية العامة، إنما لأستمتع بمشاهدة ما تعرضه المحال من ملابس وأحذية وإكسسوارات خلف واجهاتها الزجاجية، كما كانت محال لبيع المصوغات الذهبية تصطف إلى جانب محال الألبسة.

كل يوم أحد كان يعبر شارع سينما فؤاد أطفال بملابس أنيقة، وطفلات ترتدين تنانير سوداء وجوارب شفّافة وأحذية قليلة الارتفاع، ترافقهن أمّهاتهنّ أو جدّاتهنّ إلى الكنائس الأربع التي تتوزع في أماكن مختلفة من الشارع.
كان المشهد يبدو غريبًا بالنسبة لي كابنة منطقة شعبية معتادة على رؤية سيّدات بفساتين “الكودري” أو المخمل، تتحلقن أمام أحد منازل الحارة، تشربن الشّاي الثّقيل و تراقبن المارة وترمقن عبوري السريع بفضول كبير، بالطّريقة نفسها التي كنت أراقب فيها النساء في سينما فؤاد يوم الأحد.
اليوم كل شيء تغير، لم تعد المحال القديمة نفسها، ولم أشاهد الأطفال ولا أمّهاتهم، فالسّوق تحوّل إلى شارع شعبي يبيع كلّ شيء والبسطات تملأ أرصفته. وفي نهاية هذا الشّارع يظهر دوّار التّموين الّذي دمّر أيضًا نتيجة لوقوعه على خطّ النّار بين نظام الأسد الّذي سيطر على حيي الجورة و القصور، والجيش الحر ثم جبهة النّصرة ثم داعش الذين سيطروا بالتناوب على الطّرف الآخر من المدينة.
كان محل نيشان للبصريات مقابل الدوار، المحل الذي اشتريت منه أوّل عدسة ملونة لاصقة عام 2009، سمعت بأنّ نيشان هاجر في بداية 2011 ووجدت محلّه محروقًا، وأخبرني أصحاب المحال القريبة أن منظمّات تنموية بالتعاون مع المحافظة رمموا الدوار بشكل رديء قبل سقوط نظام الأسد، في محاولة فاشلة لإعادة فتح سوق سينما فؤاد.

لم تنجح محاولات إعادة تشغيل السّوق إلّا بعد أن أغلقت محال وبسطات شوارع مختلفة في المدينة تحت طائلة المخالفة بقرارات من المحافظ السابق للمدينة فاضل النّجار، وإجبارهم مطلع عام 2011 على فتح محالهم في شارعي سينما فؤاد وستة إلّا ربع.
تحول هذ السوق من سوق راقٍ إلى شارع عشوائي غير منظّم، المحالّ الّتي كان يملك أغلبها مسيحيون إمّا مغلقة أو تمّ الاستيلاء عليها من قبل ضباط نظام الأسد بعد لجوء أصحابها إلى خارج البلاد.
لم تكن صديقتي وحدها الراغبة بتفقد المكان واسترجاع ذكرياتها، أنا أيضًا كنت بحاجة إلى المشي والتلفّت بحريّة ومعاينة كلّ زاوية ومفترق في المكان بعد أن سقط نظام الأسد واختفت الميليشيات الّتي كان وجودها يمنعنا من التّجول في المدينة دون خوف.
قبل ثلاثة عشر عامًا كنّا نتسرب من دوام الكليّة الممل أنا وصديقتي هذه، تقريبًا مرّتين في الأسبوع، نتجول في شارع سينما فؤاد ومنطقة الرشدية والكورنيش أو (شارع المي) كما نسميه في دير الزّور، هذه المناطق قريبة من بعضها البعض وتعتبر واجهة المدينة.
خلف شارع سينما فؤاد تقع كنيسة يسوع الملك للآباء الكبوشيين، وبجانب الكنيسة يقع دير الراهبات الذي كان يعيش فيه كبار السّن من المسيحيين الّذين انتقلوا بعد الثورة إلى دار عجزة في مدينة حلب، بحسب صديقتي التي تتابع أخبار المسيحيين من أبناء المدينة حتى بعد مغادرتهم.

في كل مرة كنت أمر فيها أمام دير الراهبات، كنت أسترق النّظر إلى أرجوحة فارغة قريبة من باب الدير وأتمنى لو أدخل وأجلس فيها، اليوم خلال زيارتي عدت للبحث عن المكان نفسه الّذي كنت أراقب الأرجوحة منه، لكن معالم المكان تغيرت بسبب الخراب والدّمار الّذي لحق بالدير، فالسّور الخارجي تهدّم وأُعيد بناؤه، لكنه لا يشبه الجدار القديم الّذي كان أشبه بسور قلعة قديمة.
أما كنيسة يسوع الملك للآباء الكبّوشيين (الكاثوليك) الّتي تقع في منتصف شارع سينما فؤاد والتي يعود عمرها إلى عام 1930، فقد لحقها التفخيخ والتّفجير مطلع عام 2012، وهي الأكبر في دير الزّور، وتضم كنيسةً وديرًا للراهبات.
بجوار الكنيسة تقع مدرستي القديس يوسف ونجمة الصبح، تقول صديقتي إنّ المدرستين قديمتان قدم كنيسة يسوع الملك، وكانتا تتبعان لها، لكن نظام الأسد الأب استولى عليهما منذ ثمانينيات القرن الماضي وغيّر اسميهما إلى مدرسة “الشّهيد ناصر” و مدرسة “زنوبيا” بهدف طمس هويّتهما المسيحيّة. تقول صديقتي إنّها سمعت من والدها إنّ أحدًا لم يجرؤ على ذكر هذه التفاصيل أو حتى تذكرها.
جوزيف جورج، 60 عامًا، أحد مسيحيي دير الزّور، يقيم في مدينة القامشلي منذ بداية الثّورة، ويتردد لزيارة بيته ومحلّه والكنيسة وسط شارع سينما فؤاد بين الحين والآخر.

يقول جوزيف لفوكس حلب إن جميع كنائس دير الزّور مهملة، باستثناء هذه الكنيسة، التي بدأت فيها إجراءات الترميم مع الدّير المرفق بها بتوجيه من الرئيس العام للكنائس الكبّوشية عبدالله النفيلي، وكذلك يتم حاليًّاتجهيز مبنى الرّاهبات لتأهيله كدار عجزة كما كان سابقًا، والبدء بإجراءات إعادة افتتاح المدرسة الملحقة بكنيسة يسوع الملك للآباء الكبوشيين، وكانت ورشًا متواضعة موجودة في بهو الكنيسة عند زيارتنا لها.
يخبرنا جوزيف أن المسيحيين يتوقون إلى العودة إلى دير الزور، لكنه غير متفائل، رغم لقائه ومسيحيين آخرين بمسؤولين أمنيين في حكومة تصريف الأعمال وتعهدهم بتأمين الحماية لهم. إلا أن أولاده، بعد الثورة، أسسوا حياة جديدة في مدينة القامشلي، وهناك كوّنوا علاقات اجتماعية، ولم يعودوا يعرفون أحدًا في دير الزور التي تغيّرت كثيرًا. وهذا هو رأي جوزيف أيضًا، خاصةً أن أغلب جيرانه وأصدقائه، حتى من المسلمين، قد ماتوا أو هاجروا.
إلى الأمام، مقابل المصرف العقاري الّذي لم يعد موجودًا بسبب الدمار والقصف الّذي لحق بهذه المنطقة أيضًا، تقع كنيسة السّيدة العذراء للسريان الأرثوذكس مع مدرسة الوحدة التّابعة لها. أذكر أني كنت أسمّي هذه الكنيسة بالكنيسة الجميلة بسبب بنائها المميز وساحتها الّتي يتوسطها المذبح، تقع في أحد الأحياء الّتي تصل بين شارع سينما فؤاد والشّارع العام المتوازيين. لم تسلم جدرانها أيضًا من الهدم ولا أبوابها ونوافذها من التعفيش.
كنيسة السيّدة العذراء وبحسب فلم وثائقي نشره الناشط المدني مازن الشّاهين في برنامجه “خطوات” الّذي يعرضه على يوتيوب، تمّ تقديسها عام 1928 على يد البطريرك مار إغناطيوس إلياس الثّالث، كما أنشئت مدرسة السريان الأرثوذكس الملحقة بهذه الكنيسة كروضة ومدرسة ابتدائيّة حملت اسم الوحدة بعد الوحدة بين سورية ومصر عام 1958، وتمّ تجديد الكنيسة وتوسعتها خلال مشروع بدأ وانتهى بين عامي 1994-1997.
أما كنيسة السّريان الكاثوليك، وهي مهجورة منذ العام 1981، فكانت عبارة عن بناء قديم متهالك، يحيط به جدار تحول لأكوام متراكمة بسبب الدمار الذي لحق به جراء الحرب. مسحت الكنيسة عن بكرة أبيها، ولم يبق ما يدلّ على هويتها سوى تاج متكسّر، وموقعها المقابل لكنيسة السيّدة العذراء، الشيء الوحيد الّذي ساعدني على تمييزها وسط ركام المنطقة.

إلى الأمام وعلى بعد قرابة مئتي مترٍ، كنت قد وصلت إلى الكنيسة الثّالثة في دير الزّور وهي كنيسة الأرمن الكاثوليك. لهذه الكنيسة حظ أوفر إذ لم يلحق بها الدّمار الّذي لحق بالكنائس الخمس، فبناؤها كان سليمًا بالكامل، وحده الصليب الّذي يعلو مجرستها كان مدّمرًا. تجوّلت في طابقها العلوي، كانت نظيفة بفعل مبادرة نفذها فريق الخوذ البيضاء بمشاركة من شابّات وشبان المنطقة بعد سقوط نظام الأسد .
أول ما عاد لذاكرتي أثناء التجول في كنيسة الأرمن الكاثوليك، الحادثة المؤسفة التي حدثت في الحادي عشر من تشرين الثاني 2019 عندما اغتال تنظيم داعش كاهن الكنيسة، هوسيب بيدويان، ووالده الطّاعن في السّن. أمّا الشّماس فادي سانو الّذي كان يرافقهما في سفرهما فقد نجا من إصابته.
كان الكاهن ومرافقاه قادمين من الحسكة إلى دير الزور بعد إعلان التّحالف الدّولي القضاء على تنظيم داعش، إلّا أنّهم تعرضوا لإطلاق نار من ملثمين بالقرب من منطقة البصيرة، ولم تكتمل رحلتهم إلى دير الزّور حيث كان في نيّة الكاهن المباشرة بتأهيل الكنيسة وتفقد أوضاع بقيّة كنائس دير الزّور.

بعد ثلاث حارات، إلى الدّاخل باتّجاه دوّار التّموين، مررنا بجانب سور طويل متهالك يحيط بأرض مليئة بأكياس قمامة وحطام قديم. هذه الأرض كانت تقوم عليها كنيسة القديس يوسف للكلدان الكاثوليك. حتّى معظم جيران هذه الأرض من السكان المحليين لا يعرفون أنّها كانت يومًا ما كنيسة الكلدان، بالرغم من وجود لوح يحمل اسم الكنيسة على الجدّار الطويل المحيط بها.
كتب الأب فيردنان اليسوعي في صحيفة المشرق اللبنانيّة مقالًا تحدّث فيه عن كنائس دير الزّور، قال فيه: “إن كنيسة القديس يوسف للكلدان الكاثوليك تأسست عام 1904، لثلاثين عائلة كانت موجودة في ثلاثينيات القرن الماضي، وكان السّيد المطران إسحق خودباش رئيسهم آنذاك.
معظم التّقارير الصّحفية تتحدث عن خمس كنائس فقط في دير الزّور وهي الأرمن الكاثوليك، كنيسة الشهداء للأرمن الأرثوذكس، السيدة العذراء للسريان الأرثوذكس، كنيسة يسوع الملك للآباء الكبوشيين، كنيسة السريان الكاثوليك، ويتم تجاهل كنيسة القدّيس يوسف للكلدان لأنها مهدّمة بشكل كامل ومهجورة منذ ثمانينيات القرن الماضي.

سارة حنا 34 عامًا، مسيحية من كلدان دير الزّور نزحت إلى مدينة الحسكة مع بداية الثّورة ثمّ هاجرت مع والدتها إلى البرازيل بعد عجز أخيها اللاجئ في ألمانيا عن لم شملهما، تقول إنها تشعر بصعوبة اتخاذ قرار العودة إلى المدينة، كما أنها تشعر بصعوبة الاغتراب، تقول: “إحساسي بأنّي من أواخر النّاجين أمر في غاية الصعوبة أيضًا”.
من يزور كنائس دير الزّور لن يتعبه التنقل بينها لقربها من بعضها البعض، لا يفصل بين الواحدة والأخرى سوى حارة أو حارتين، وحدها كنيسة الشّهداء للأرمن الأرثوذكس تبتعد قليلًا عن جاراتها، باتّجاه فندق زياد على طريق نهر الفرات.
على يمين الفندق تقع هذه الكنيسة الّتي لحق الدّمار بها، ولم يتبق منها سوى بعض التّيجان والرّسوم الكنسية على جداران قليلة لتبقى شاهدة على الكابوس الّذي جثم على صدر المدينة، وتظهر مقاطع فيديو على الإنترنت وثّقها ناشطون استهداف هذه الكنيسة وتعرضها لقصف نظام الأسد بالقذائف في السادس من أيار عام 2013.

كنيسة الشّهداء للأرمن الأرثوذكس هي واحدة من أهم معالم السيّاحة الدينية في دير الزّور، فقد كانت قبلة للمسيحيين حول العالم وخاصة الأرمن الّذين يزورونها سنويًّا بتاريخ 24-نيسان إحياءً لذكرى مجازر عام 1915.
فعند اندلاع الحرب العالمية الأولى وجد الأرمن أنفسهم على جانبي جبهة القتال بين العثمانيين والروس، واتهمهم العثمانيون بالعمالة للعدو وتم نزع سلاح الجنود الأرمن وقتلهم على يد القوّات العثمانيّة وفقًا لتقرير الصّحيفة الأمريكية واشنطن بوست، كما يشير التّقرير نفسه إلى أنّه بتاريخ 24نيسان 1915 اعتُقِل 250 من القادة والمثقفين الأرمن، ويعتبر هذا التّاريخ بداية المذبحة.
انتهت جولتنا وسلكنا طريق العودة بخطًى ثقيلة. فصدمة كلينا بحال كنائس المدينة كانت كبيرة، على الرغم من أننا لم نكن نجهل ما حلّ بها من دمار خلال سنوات الحرب. تتساءل صديقتي التي تتبع لطائفة الأرمن، إن كانت الأجراس ستقرع قريبًا في المدينة، وهل سيعود مسيحيون مهجرون إلى الكنائس لإحياء طقوس العبادة من جديد، أم أن ترميم الكنائس وحده لن يكون كافيًا لعودة الراحلين.