.
صادف موعد ولادة نور صفوان (30 عاماً) ثالث أيام عيد الأضحى من العام الماضي ولسوء حظها فإن عدداً كبيراً من الكوادر الطبية لم يكن على رأس الخدمة في معظم مشافي التوليد القريبة من بلدتها الفوعة في ريف إدلب.
بعد بحث وعناء قصدت “نور” مشفى في مدينة معرة مصرين القريبة من منطقتها وهو مشفى عام تموله منظمة غير حكومية، كان الوحيد الذي يتوفّر فيه طبيب مناوب وقابلة وعدد من الممرضات. تقول نور: “استقبلني فريق التمريض بوجوه عابسة موجهين لي تحذيراً من رفع صوتي أو إظهار الألم أثناء الولادة.. قالت لي القابلة حرفياً: “نحنا موفاضيين إلك.. تحملي وجعك واسكتي”.
تتذكر نور ذاك اليوم كواحد من أصعب التجارب التي مرت بها. في غرفة التوليد تركت نور لوحدها في لحظات حرجة بعد أن مُنعت شقيقتها من مرافقتها، وبين الحين والآخر كانت تسمع “عبارات جارحة” وإهانات وتوبيخاً من الممرضات كلما مررن من أمامها أو سمعن صوت صراخها.
مع نهاية اليوم كان جسد نور مرميّاً على الأرض إثر سقوطها من على كرسي الولادة، استغاثت بالقابلة كي تساعدها على النهوض لكن القابلة غادرت الغرفة مع الطفل الوليد وتركتها دون اكتراث، لينتج عن سقوطها تمزق عصبيّ في اليد ما زالت تعاني من آثاره إلى اليوم.
يمكن اعتبار ما حصل مع نور قصة نموذجية عما يمكن أن يحصل مع النساء أثناء تواجدهنّ في أقصى حالات الضعف والتوتر النفسي في غرف الولادة في مستشفيات شمالي سوريا، ممارسات تتكرر بأشكال مختلفة وتسميها منظمة الصحة العالمية “العنف أثناء الولادة“.
تتنوع أوجه العنف أثناء الولادة بحسب المنظمة الأممية، بين توجيه إهانات لفظية للسيدة عند صراخها بسبب عدم قدرتها على تحمل الألم، أو الاستخفاف بآلامها ورفض إعطائها المسكنات، وأحياناً تعرضها للضرب على الساق والقدمين.
يضاف إلى قائمة “العنف أثناء الولادة” إهمال فريق الرعاية الطبية الذي قد يؤدي إلى حصول خطأ طبي، كإعطاء المرأة مثلاً أدوية تحريض غير مناسبة، أو القيام بإجراءات قسرية أو غير ضرورية مثل الفحص المهبلي المتكرر الذي يسبب آلاماً مضاعفة، أو اللجوء إلى العملية القيصرية دون سبب، وأحياناً يصل الأمر حدّ الأذى المباشر، كخياطة الجرح من دون تخدير وغيرها من الممارسات التي قد تخلق تردداً في طلب النساء للمساعدة، وتزيد من نسبة الخطر على الطفل والأم معاً.
“ما حدا فاضيلك”
تنظر نور في عيني ابنها “هاني” الذي أكمل قبل أسابيع عامه الأول، تتأكد من أنه خلد إلى النوم، تنقله من حضنها إلى السرير ثم تتابع سرد قصّتها مع الولادة. “دخلت غرفة المخاض بعدما اشتد عليّ الطلق وأحسست بقرب ولادتي، ألقيت ظهري على كرسي الولادة، شعرت ببرودة تنخر عظامي رغم أن حرارة الطقس كانت مرتفعة، الألم يزداد وجسدي يتمزق، وحولي القابلة والممرضة تعبسان في وجهي، تمنعاني من الصراخ أو التعبير عن وجعي. شعرت بجسدي يختل توازنه عن الكرسي، أمسكت بيد القابلة لأتجنب السقوط، لكنها نزعت يدها بقوة فوقعت أرضاً.. اختلط ألم الولادة بألم يدي التي وقعت عليها”.
“شعرت أني مذنبة لمجرد أني قدمت إليهم للولادة في أيام العيد.. فقد خرجت الممرضات والقابلة من الغرفة، أخذوا الطفل معهم لإجراء الفحوصات وتركوني على الأرض، “ماحدا فاضيلك بدك تستني”، قالت لي الممرضة قبل أن تخرج.
أصيبت يد “نور” بتمزق عصبي. أخبرها الطبيب أنها تعرضت لرضّ قوي أثناء الولادة يسبب لها حتى اليوم شعوراً بالتنميل والألم بين الحين والآخر.
نور واحدة من نساء عرضن تجاربهن والأثر الذي تركته تلك الممارسات عليهن أثناء الولادة في محافظة إدلب التي تعاني منذ أن خرجت عن سيطرة النظام في العام 2015 هشاشةً في القطاع الطبي ونقصاً حاداً في دعم المشافي والمرافق الصحية، وصل ذروته في تشرين أول (أكتوبر) 2021 ما دفع جزء منها لإغلاق أبوابه والتوقف عن استقبال المرضى.
أثناء إعداد التحقيق قمنا بتوزيع استبيان على عينة عشوائية من 120 امرأة مقيمات في إدلب، جميعهن خضن تجربة الولادة مرة واحدة على الأقل في مستشفيات المحافظة، يتوزعن بين التجمعات والمدن الكبرى والأرياف ومخيمات اللاجئين العشوائية. وتم اختيار العينة من النساء اللواتي تتراوح أعمارهن بين 18و38 عاماً وهي فترة عمرية يكون فيها معدل الخصوبة مرتفعاً لدى النساء، وطرحت عليهن أسئلة حول تعرضهن لإحدى الممارسات التي تصنف كنوع من العنف أثناء الولادة.
جاءت نتائج العينة لتحمل مفاجآت حتى بالنسبة لمختصين اطلعوا عليها، حول مدى انتشار العنف بحق النساء في مستشفيات التوليد ومدى جهل النساء الحوامل والكوادر الطبية أيضاً في التعامل مع هذه الحالات إلى درجة اعتبارها في أحيان كثيرة “إجراءات اعتيادية”.
تشير نتائج الاستبيان أن ثلث نساء العينة تمّ تركهن وحيدات في غرف الانتظار بعد الولادة لأكثر من ساعة دون تقديم المساعدة الطبية لهن أو إعطائهن المسكنات المطلوبة، وهو ما حدث مع نور التي سبق لها أن ولدت مرتين، والتي دفعها عدم الاكتراث بإصابتها لأن تردّد أكثر من مرة أثناء مقابلتها معنا: “لن أسامحهم طيلة حياتي”.
الطبيب “زهير قراط” مدير مشفى “أبين سمعان” النسائي شمالي إدلب سابقاً الذي غير اسمه إلى مشفى “الأندلس” قبل أشهر، أحد المتخصصين القلائل الذين بقوا يعملون في المنطقة رغم ظروف الحرب، يعلّق على حادثة “نور” بالقول إن جزءاً من الشكاوى التي تصله تتمثل في أسلوب تعامل الكادر الطبي ومقدمي الرعاية السيء مع المرضى النساء.
لا يجد هذا الطبيب المتخصص أي مبرر لتعرض المرأة لتعنيف لفظي أو جسدي، بل إن ما يسميه بالرضّ الطبي “غير مبرر أبداً لا علمياً ولا أخلاقياً”. ويضيف لفوكس حلب أن “عتبة الألم عند الولادة تختلف بين امرأة وأخرى، فلدى بعض النساء حساسية عالية، لا يستطعن كتم ألمهن أو السيطرة عليه، على عكس نساء أخريات، وهذا يختلف أيضاً إن كانت بالغة أو قاصر وإن كان لديها ولادات سابقة أم أنها خروس، أي في أول ولادة لها”.
“بدي أخلص”
“لح تموتي يا سلوى.. لح تموتي”، صرخات القابلة كانت أعنف من أي ألم عاشته سلوى التي لم تكمل عامها السابع عشر، عندما خاضت ثاني تجربة ولادة لها قبل عام ونصف من اليوم، بدأت قصة سلوى عندما شعرت بألم يشبه “الطلق” وهي في منتصف شهرها الثامن من الحمل، كان على هيئة مغص شديد، جعلها تذهب رفقة أمها إلى مشفى للتوليد في إدلب وهو مشفى تخصصي يتلقى دعماً من إحدى المنظمات غير الحكومية.
فحصتها القابلة وقالت لها إنها علامات ولادة رغم تأكيد سلوى لها أنها لم تدخل الشهر التاسع بعد. لم تستجب القابلة ووضعت لها حبة محرض في الرحم لتسريع عملية الولادة بدلاً من إعطائها مضاداً لتشنجات الرحم وآلام المغص، ثم أرسلتها للمنزل إلى حين اشتداد “الطلق” واقتراب موعد ولادتها.
ساعات قليلة في المنزل ثم يحين الموعد. عادت سلوى إلى المشفى فور ذلك، وبعد ألم شديد وضعت طفلها. أُخذت لغرفة الانتظار لمراقبة حالتها، لكن في هذه الأثناء بدأت تنزف بقوة، فرحمها لم يتحمل التحريض الاصطناعي مما سبب لها تمزقاً داخلياً.
تقول سلوى التي ما زال وجهها يكتسي ملامح طفلة: “بدأت أصرخ من الألم بشكل هستيري، فعرفت القابلة أن التحريض الذي وضعته لي سبب تمزقاً في رحمي، فقدت وعيي نتيجة الألم على وقع صرخاتها وهي تقول لي “لح تموتي.. لح تموتي”.
يميز الطبيب” قراط” بين الممارسات التي تكون على هيئة سلوكيات وأسلوب قاس في التعامل، وبين الأخطاء الطبية والإهمال الذي يتسبب بحدوث اختلاطات وعواقب صحية تشكل خطراً على صحة الأم والطفل كما هو الحال مع سلوى التي أُدخلت إلى غرفة العمليات بعد كشف الطبيبة عليها لإجراء عملية استئصال للرحم وإلا كانت ستفقد حياتها.
تقول والدة سلوى التي كانت معها في المشفى “تم توقيعي أنا وزوج ابنتي على ورقة قبول إجراء العملية وتحمل كامل المسؤولية عما يحدث لاحقاً”. ووسط توتر الكادر الطبي تم استدعاء طبيب جراحة من مشفى خاص قريب استنكر الحالة السيئة التي وصلت لها الفتاة، وقال لهم: “شو مخبصين بالبنت، كيف بدكن تشيلو الرحم وهي عمرها 17 سنة؟!”.
أخيراً قرر الطبيب إجراء عملية خياطة للرحم الممزق، وبقيت سلوى تحت العملية عدة ساعات، احتاجت خلالها إلى عدة أكياس دم بسبب النزيف، ثم أمضت ليلتين في قسم العناية المشددة لحين استقرار وضعها، وهي تعاني إلى اليوم من نقص صفيحات دموية بسبب العملية.
يقول “كمال جمعة” مسؤول طبي في مشفى ” المجد” الخاص بمدينة إدلب لفوكس حلب: “إن من الممكن خياطة تمزق الرحم إذا تعرض لرضّ أو تمزق لسبب ما، وهو في حالة سلوى كان يمثل إنقاذا لها بدلاً من استئصال الرحم كاملاً”.
أنجبت سلوى طفلها قبل أوانه، فبقي في الحاضنة 17 يوماً إلى حين دخوله الشهر التاسع ساءت خلالها حالته ووصل إلى حافة الموت حسب قول الأطباء، لكن بعد معاناة طويلة نجا ونجت سلوى من موت محقق، والسبب على حد قولها “استهتار القابلة واستعجالها عملية الولادة”.
لا تنسى سلوى جواب القابلة عندما سألتها عن سبب إعطائها جرعة تحريض وهي لم تنهٍ الشهر الثامن من حملها، إذ ردّت القابلة بعصبية: “بدّي أخلص”.
العبارة نفسها، “بدّي اخلص”، عرّضت حياة السيدة الثلاثينية “وئام” للخطر قبل أربعة سنوات وكان ذلك في مشفى خاص أغلق قبل فترة في مدينة الدانا بريف إدلب الشمالي. كان طلقها منتظماً ووضعها مستقراً وقد طلبت من الممرضات عدم إعطائها “المحرّض” غير أنهن لم يستجبن لها.
تقول وئام: “وضعت لي الممرضات جرعتي تحريض، سببتا لي ألماً مضاعفاً استمر لثلاث ساعات بعد انتهاء عملية الولادة. عندما سألت الطبيبة عن السبب قالت إنه من أثر التحريض الاصطناعي، لاستعجال عملية الولادة بسبب وجود عملية قيصرية لسيدة أخرى بعد عمليتي مباشرة”.
“شحادين ومشارطين”
نتائج الاستبيان الذي وزعناه على 120 امرأة خضن تجربة الولادة في مستشفيات محافظة إدلب بيّنت أن أكثر من نصف نساء العينة تعرضن لاستخفاف بآلام ولادتهن وهنّ في أشد اللحظات ضعفاً، وأن ثلث هؤلاء النساء تعرضن لإهانات لفظية مباشرة وزجر وسوء معاملة أثناء وضعهن مواليدهنّ. وشملت نتائج الاستبيان ذكر عبارات محددة سمعتها النساء على سبيل اللوم والزجر والإهانة.
بحسب الشهادات كانت أكثر العبارات التي تكررت في غرف التوليد: “وقت تعملي علاقة زوجية ما بتفكري إنك لح تحبلي؟”، “ليش تحملي بهيك ظروف؟”، “لما تزوجتي ما خبروكي هيك راح يصير فيكي؟”، “مو شاطرين غير تحبلوا وتجوا لعنا تبكوا”، ” اسكتي.. ماحدا قلك تتزوجي وتحبلي”.. “على فكرة.. ممكن تموتي”، وذكرت أكثر من سيدة أوصاف ونعوت وشتائم من نوع التشبيه بالحيوانات تعرضن لها، مثل “حمارة.. يا بقرة.. يا حيوانة.. الخ..”.
فاطمة، 25 عاماً، واحدة من النساء اللواتي شاركن بالاستبيان، استقبلها الكادر الطبي بإهانات لفظية عند وصولها في منتصف الليل إلى مشفى في منطقة دير حسان شمالي إدلب، وهي منطقة تعرف بأنها تضم عدداً كبيراً من مخيمات النازحين. قررت فاطمة الذهاب للمشفى فور أن أحست بأعراض الولادة. كانت تخشى أن يفتح جرح العمليات القيصرية السابق في حال اشتد “الطلق”.
عند وصولها قالت لها القابلة الموجودة هناك “حدا بيجي بالليل بيعمل عملية” ووبّختها على إيقاظها الكادر الطبي بسبب مجيئها ليلاً. تضيف فاطمة في شهادتها أنها لم تسلم من إساءة طبيب التخدير لها ونعتها بكلام مسيء من نوع: “في جحش بيجي يعمل عملية قيصريه بالليل؟”، وعند سؤالها عن نوع التخدير أجابها بعصبية: “التخدير قطني (في الجزء الأسفل من الجسم).. إذا ماعجبك شوفي مشفى تاني.. شحادين ومشارطين بتجو بالليل وبتتشرطوا”.
استقبلت فاطمة كل تلك الإهانات بصمت دون أن تتجرأ على الدفاع عن نفسها، تقول، “كأني مذنبة.. وكأنهم ليسوا في المشفى لتأدية واجبهم سواء بالليل أو النهار.. لكن حالة الضعف والألم منعتني من المشاحنة والرد خشية طردي من المشفى وتأزم حالة الولادة”.
لا يبدو من نتائج الاستبيان أن ارتفاع مستوى الشهادة الطبية يلعب دوراً كبيراً في أسلوب معاملة المرأة الحامل، إذ يظهر الاستبيان أن حوالي ربع النساء تعرضن لتلك الإهانات اللفظية على يد القابلة القانونية، تليها نسبة 21 في المئة كانت من قبل الممرضة، و18 في المئة من قبل الطبيب أو الطبيبة، بينما ذكرت 14 في المئة من النساء أنهن تعرضن لتلك الممارسات من قبل جميع الكادر الطبي ومقدمي الرعاية، أطباء وممرضين وقابلات.
أجواء متوترة
يقطن في محافظة إدلب حوالي أربع ملايين و300 ألف نسمة نصفهم تقريباً نازحون ومهجرون من محافظات أخرى، حوالي المليون منهم يعيش ظروفاً قاسية في المخيمات.
وبحسب “دائرة الرعاية الصحية الاولية” في مديرية صحة إدلب تحتاج هذه المنطقة إلى حوالي 100 مركز توليد باحتساب أن كل 50 ألف نسمة بحاجة إلى مركز واحد على الأقل. لكن في واقع الحال لا يوجد في إدلب سوى 22 مركزاً فقط مختصة بالولادة الطبيعية، وهي تعمل على مدار 24 ساعة لسد النقص الحاصل، ويبلغ معدل الولادات الشهري فيها بين 3000 لـ 3500.
أما المشافي المتخصصة بالتوليد فهي ثمانية فقط، يتراوح عدد الولادات فيها بين الطبيعي والقيصري بشكل إجمالي بين 5000 لـ و6500 ولادة شهرياً، غير أن الحاجة الفعلية بالنسبة للكثافة السكانية الموجودة في المنطقة هي مشفى توليد متكامل لكل 100 لـ 150 ألف نسمة، أي بين 35 إلى 40 مشفى كحدّ أدنى.
هذا الأمر سبب ضغطاً على مشافي التوليد زاد من حدته هجرة عدد كبير من الكوادر الطبية المتخصصة في السنوات العشر الأخيرة إلى خارج البلاد، وتقليص دعم المنظمات الدولية لمستشفيات الشمال السوري في الفترة الماضية، خصوصاً أن معظم المشافي العامة تتلقى دعماً من منظمات دولية يعطى لها على أساس مدة زمنية قصيرة وقد تقلص منذ تشرين أول/أكتوبر العام الماضي مجبراً أكثر من 14 مشفى آنذاك على التوقف عن العمل، بحسب المكتب الإعلامي لمديرية الصحة.
من خلال عملها في عدة مشافي توليد في السنوات الماضية تخبرنا الممرضة “زهور” أن “الجو العام في المشفى يعج بالتوتر والضغط المستمر مما يخلق تعباً جسدياً ونفسياً معاً لغالبية الكوادر الطبية، خصوصاً مع توقف الدعم عن كثير من المشافي وبالتالي زيادة العبء على العدد القليل من المرافق الصحية المستمرة بتقديم الخدمات”.
تضيف زهور أن هذا الجو المضطرب والتعليمات الصارمة لدى المشافي لاستيعاب الأعداد الكبيرة قد تقود إلى حصول “عنف أو سلوك عدائي ضد المرضى ومرافقيهم”، وتبرر وجود هكذا ممارسات بالقول: “تخيلي شعورنا كفريق طبي، نقضي حياتنا كلها تحت هذه الضغوطات.. هذا لوحده تعب نفسي، ناهيكِ عن دوامة الخوف من الأمراض المعدية كوباء كورونا المنتشر حالياً”.
بالنسبة لأسماء (18عاماً) التي عاشت تجربة قاسية أثناء الولادة، فإن تقلص الدعم لا يبرر طريقة تعامل المشافي التي تتجاوز في بعض الأحيان الأذى اللفظي بحق الأمهات ليتحول إلى “سلوك انتقامي وعدائي تجاه المريض”.
في أول ولادة لها قبل أقل من عام في مشفى عمومي بمدينة إدلب، دخلت أسماء غرفة المخاض وكان وضع الجنين خطراً بسبب تأخرها في الولادة إلا أن القابلة رفضت في البداية توليدها بسبب صراخها أثناء الفحص النسائي، ووجهت لها إهانات وشتائم.
لم تنتهِ معاناة “أسماء” بالإهانة والتجريح، بل بدأت مرحلة جديدة من الممارسات بعد أن وضعت المولود. فقد تعرضت أثناء الولادة إلى قص العجان (المنطقة الواقعة بين الشرج والمهبل)، لكن القص كان أكبر من اللازم وتم دون تخدير، ورفضت الممرضات إعطائها أية مسكّنات.
تقول “كان الألم قد وصل لدرجة لا توصف وبعد خياطة الجرح حصل معي نزيف قوي دام أكثر من ساعتين، والسبب هو استعجال الممرضات بالخياطة وتجاهلهم وجود تمزق داخلي في الرحم كان هو الآخر يحتاج لخياطة من الداخل”.
فقدت أسماء وعيها لأكثر من ساعتين دون وجود أحد يتعامل مع الوضع، إلى أن لجأت القابلات أخيراً لاستشارة طبيبة نسائية عن طريق الهاتف، ثم حضر طبيب تخدير قام بفك الخياط السابق والخياطة من جديد. تقول “بقيت أكثر من شهرين بعد الولادة أعاني من آلام الخياطة.. لن أسامحهم ابداً”.
هذه التصرفات من وجهة نظر الطبيبة “إيمان الطويل” أخصائية نسائية غير مقبولة أبداً. “لا يمكن تبرير العنف أو الممارسات السلوكية الخاطئة مهما اختلفت تسمياتها، ما بين إهانات لفظية، وإهمال طبي أو تشخيص خاطئ أو سوء معاملة طبية فإنها كلها تبريرات غير مقبولة وأصبحت ظاهرة خطيرة ومتكررة في المشافي”.
إجراءات غير ضرورية
لم تحصل أسماء على تخدير أثناء الخياطة ولا على مسكنات ألم، وهو أمر تكرر مع حوالي 34 بالمئة من النساء ذكرن أن الممرضات كن يرفضن إعطاءهن مسكنات للألم أثناء الولادة. كما أن النسبة نفسها أي الثلث من النساء ذكرن في الاستبيان أنهن تعرضن لإجراء واحد على الأقل لم يكن له حاجة فعلية مثل الفحص المهبلي المتكرر، وإجراء عملية قيصرية دون ضرورة.
تؤكد القابلة خديجة لفوكس حلب أن “العمليات القيصرية تكون فقط في حال الضرورة الطبية البحتة، مبنية على الحاجة الفعلية للأم أو الجنين، بالإضافة إلى النساء اللواتي أجرين عمليات قيصرية في السابق، عمليتان اثنتان أو أكثر، فقطعاً لابد من إجراء العمل الجراحي لهن”.
لكن وفق شهادات نساء قابلناهن، تلجأ بعض القابلات أو الطبيبات لإعطاء الحامل محرضاً على الطلق لتسريع عملية الولادة، والذي يسبب طلقاً في غير وقته، قبل أن يحصل التوسع في فتحة عنق الرحم ليناسب الولادة، مما يضطر الحامل لإجراء عملية قيصرية.
تلاحظ قابلة قانونية طلبت عدم ذكر اسمها أن هناك “تساهلاً” لدى المشافي الخاصة في إدلب في إجراء العمليات القيصرية بالمقارنة مع العامة، وترجع ذلك إلى أسباب “ربحية” وليس طبية، وهو ما يعد عنفاً بحق النساء حتى لو جاء بناءً على رغبة الأم نفسها.
توضح القابلة أن “إجراء القيصرية يحتاج وقتاً أقل من الطبيعي، لا يتجاوز نصف ساعة، وبالتالي توفر جهداً على الكادر الطبي من ناحية مراقبة وضع الأم والجنين ومتابعة مراحل المخاض والولادة التي تستغرق ساعات طويلة في الحالات الطبيعية، كما أن القيصرية مربحة أكثر فأجرة العملية تتراوح بين 150 و200 دولار حسب المشفى والتوقيت والمنامة”.
تضيف القابلة أن “هذه الأسباب تدفع الكوادر الطبية إلى إقناع المرأة الحامل بإجراء العملية القيصرية وتخويفها من ألم الولادة، وأحياناً اختلاق أسباب غير موجودة لإجراء العملية”.
هذا ما حصل مع الشابة العشرينية “ولاء” التي قررت إجراء عملية قيصرية لأول ولادة لها في مدينة إدلب العام الماضي نتيجة تشجيع الطبية لها. تقول ولاء: “خفت من الألم المصاحب للولادة بعد أن رافقت شقيقتي في ولادتها وشهدت الألم الذي تعرضت له خلال أربع ساعات من المخاض، وشجعتني الطبيبة على اتخاذ القرار”.
أجساد الأمّهات.. حقل تجارب
تصريحات القابلة وتجارب النساء تفسر ارتفاع معدل الولادات القيصرية عن الطبيعية في السنوات الاخيرة في محافظة إدلب، إذ وصلت إلى 40 في المئة من حالات الولادة بحسب مديرية الصحة، بينما لا تزيد النسبة العالمية لمثل هذه العمليات عن 21 في المئة.
ووفق دراسات علمية فإن العمليات القيصرية من دون ضرورة، ترفع من فرصة وفاة الأم بنحو 60 بالمئة وتسبب مضاعفات قد تهدد حياتها مثل تمزق الرحم أو استئصاله أو حصول نزيف، وترفع من احتمال حدوث سكتة قلبية بمعدل خمسة أضعاف، وتسبب خطراً على الولادات اللاحقة.
كما أن منظمة الصحة العالمية تعتبر أن إجراءها من دون حاجة “عنف ولادة” وتعرفه على أنه “استيلاء العامليين الصحيين على جسد المرأة بطريقة غير انسانية وإضفاء الطابع الطبي التعسفي، وكذلك إضفاء الطابع المرضي على العمليات الطبيعية، بما في ذلك فقدان المرأة الاستقلال والقدرة على اتخاذ قراراتها بحرية بشأن جسدها وحياتها الجنسية، مما له عواقب سلبية على نوعية حياتها”.
وتظهر شهادات النساء تكرار إجراءات قسرية لا داع لها مثل الفحص المهبلي المتكرر دون داعٍ طبي، كما هو الحال مع “سعاد”، 33 عاماً، التي قالت باستياء أن جسدها كان يستخدم في المستشفى كـ “وسيلة توضيح” لكوادر تحت التمرين وأن شعور “المهانة” كان يرافقها طوال فترة إجراء الفحص المهبلي.
على الرغم من إنجاب “سعاد” في مرتين سابقتين بعمليات قيصرية، أصرت القابلة على فحصها نسائياً دون وجود الحاجة لذلك، وبعد معاناة مع الطلق وانتظار وقت طويل نُقلت لغرفة العمليات. تقول سعاد “منذ البداية أخبرتهم أنني قيصرية، لماذا هذا العناد في إخضاعي للفحص النسائي المتكرر وانتظار وقت طويل قبل إجراء العملية، كان الفحص مؤذ لي ومؤلم ولم يكن ضرورياً سوى كوني حقل تجارب لتعليم القابلات والممرضات الجدد”.
ماذا عن الخصوصية؟
تقسم المشافي في منطقة شمالي سوريا إلى عامة مدعومة من منظمات غير حكومية أو منظمات طبية عالمية وأخرى خاصة. ولا تدل شهادات النساء اللواتي قابلناهن على وجود علاقة مباشرة بين سوء التعامل وكون المشفى خاصاً أو عاماً.
فتخبرنا “أم حسين” مثلاً، وهي بعمر 39 عاماً، أنها تعرضت أكثر من مرة لمعاملة فظة خلال ولاداتها السابقة، كانت إحداها بمشفى “السلام” وهو مشفى عام في مدينة إدلب من قبل ممرضة، لأنها حاولت إمساك يدها أثناء الولادة، وأخرى في مشفى “المطلق” الخاص، حين رفضت الممرضة أن تغير كيس القسطرة البولية لها، وطلبت من ابنتها تغييره بعد إجراء عملية قيصرية، وهناك شهادات مماثلة لأمهات ولدن في مشافي عامة وخاصة كمشفى “حريتان” و”الأمومة” و”الإخاء” و”شفق” وغيرها.
لكن استبيان العينة يبين أن الوضع في المستشفيات الخاصة يبقى أفضل من ناحية توفر مستوى معقول من الخصوصية أثناء الولادة، بخلاف العامة التي لا تتمتع فيها المرأة بأدنى حد من الخصوصية، فيمكن أن يتواجد في غرفة التوليد عدد من الأشخاص لا ضرورة لوجودهم.
وتؤكد منظمة الصحة العالمية أن انعدام الخصوصية في المشافي ومراكز الرعاية الصحية يعد نوعاً من العنف وانتهاكاً لخصوصية المرأة أثناء الولادة، لا سيما عندما تواجه النساء تعليقاتٍ جارحة ومهينة بحقهن في تلك اللحظات.
وصفت “سميرة”، 30 عاماً، الوضع عندما كانت في غرفة المخاض إذ يوجد عدة نساء معاً دون وجود ساتر بينهن. تقول “يتم الفحص النسائي أمام الجميع، دون ستارة تفصل بيننا، حتى الأسّرة كانت تقابل الباب مباشرة، والممرضات يدخلن ويخرجن باستمرار، بالإضافة إلى عاملات النظافة والقابلات والمرافقات، ومنهن من كن يتبادلن الأحاديث فقط، وليس لديهن عمل حقيقي داخل الغرفة”.
سميرة واحدة من النساء اللواتي أجبن على الاستبيان الذي قمنا به قبل إعداد التحقيق، والذي بين أن حوالي 44 في المئة من النساء في ادلب وريفها فقدن الشعور بالخصوصية أثناء الولادة.
ورغم تفوق المشافي الخاصة في ناحية الخصوصية، إلا أن ربع النساء فقط وضعن موالديهنّ في المشافي الخاصة، فيما ذهب 70 في المئة منهن إلى المشافي العامة والمدعومة من المنظمات، لعدم قدرتهن على دفع أجور المشفى الخاص التي تتراوح بين 85 و120 دولار للولادة الطبيعية، وبين 150 و200 دولار للولادة القيصرية، وقد تختلف أيضاً حسب توقيت الولادة إن كان ليلاً أم نهاراً.
أساليب قديمة
صحيح أن المستشفيات الخاصة توفر قدراً أكبر من الخصوصية في غرف التوليد، لكن حسن المعاملة يتوقف على قدرة المشفى المالية وعلى مستوى تدريب وكفاءة الكادر الطبي بحسب القابلة خديجة، وهي خريجة دبلوم تمريض اختصاص قبالة.
من خلال خبرتها الممتدة لسنوات في عدة مشافي في المنطقة تلحظ هذه القابلة أن “المستشفيات التي تقف وراءها منظمات دولية كبيرة يندر وجود إساءة معاملة فيها بسبب خوف العاملين من المساءلة والتهديد”. وتضيف أن مرتب القابلة في معظم المستشفيات العامة المدعومة من المنظمات المانحة يتراوح بين 350 و500 دولار شهرياً، وهو يفوق ضعف مرتب القابلة التي تعمل في القطاع الخاص.
وتوضح القابلة خديجة أن “التوظيف في هذا النوع من المشافي يكون في الأغلب على أساس الشهادة العلمية والخبرة، خاصة في آخر عامين، مع توصيات بطريقة التعامل البعيدة عن التسلط والتركيز على مهارات التواصل”، ثم تستدرك: “لكن هذا كله يعتمد على سلوك الشخص ورغبته في تطوير مهاراته في العمل.. أو البقاء على سلوكه القديم”.
تتحدث “هبة”، 22 عاماً، عن تجربتها في الولادة في الصيف الماضي في مشفى بمدينة الدانا شمالي إدلب. تروي أن القابلة نهرتها بسبب صراخها أثناء الولادة، خوفاً من أن يسمع الطبيب أصوات النساء ويوبخ الكادر الطبي. هنا تساءلت هبة وقالت للقابلة “أنت مانك أمّ.. ما بتحسي بوجع غيرك؟”.
تعلق القابلة خديجة على ما حصل مع “هبة” بالقول إن “العنف والمعاملة السيئة من قبل الكادر الطبي يحصل عندما تغيب طرق التدريس الحديثة التي تهتم باحترام المريضات وتقديم الدعم النفسي لهن”. وأضافت أن “عدداً من القابلات تأثرن بمناهج التدريس القديمة أو بسلوك متوارث من قبل بعض الأطباء المختصين في طريقة تعاملهم مع بقية الكادر الطبي الاقل تراتبية في سلم العمل”.
وأوضحت أن “نظرة مقدمي الرعاية لهذا النموذج من الأطباء على أنه أخصائي ناجح يفرض احترامه، يجعلهن يعتقدن أن تلك الطريقة هي المثالية في التعامل مع المرضى”.
أنجبت هبة طفلتها وبقيت في غرفة الانتظار قرابة الساعتين والسيروم معلق بيدها، طلبت من الممرضات فكه، لكنهن لم يستجبن، وبحركة خاطئة منها انتزع الحبل الموصول بيدها، وانطلق الدم من الوريد المفتوح وصاحت والدتها للممرضات دون أي استجابة منهن. تقول هبة “ساعدتني مرافقة إحدى النساء الموجودة معي في نفس الغرفة، في سحبه وإغلاق الجرح بقطعة محارم بسبب عدم وجود لاصق طبي حسب قول الممرضة عندما طلبنا منها إحضاره”.
معاهد القبالة
في محافظة إدلب أكثر من معهد وجامعة تتوفر على أقسام للقبالة، منها جامعة “الشمال” وجامعة “النهضة” وهما جامعتان خاصتان، وجامعة إدلب العامة.
لكن القبالة والتمريض تُدرّسان معاً في جامعة إدلب لمدة عامين بعد البكالوريا فوراً، وهي فترة غير كافية بحسب القابلة خديجة للتعليم النظري والعملي والتدريب والاختصاص، فالتمريض وحده يحتاج إلى سنتيّ دراسة، لذا يصلح هذا البرنامج ليكون “إسعافياً”، والخرّيجات فيه “لا يتمتّعن بالخبرة الكافية لمزاولة المهنة”، في حين تدرس الجامعات الخاصة مثل جامعة “النهضة” سنة واحدة فقط، “وهذا أيضاً غير كافٍ لتعلم جميع الخبرات التي تمكنها من خوض العمل بكفاءة” بحسب القابلة.
بالمقابل، تدعم منظمات دولية مشروعات مؤقتة لتعليم القبالة تستمر فترة من الزمن إلى حين تخريج دفعة محددة من الطالبات، مثل معهد القبالة في منطقة ترمانين شمالي إدلب الذي انتقل الى مدينة الأتارب غربي حلب واعتمد على برنامج مكثف يمتد لـ 18 شهراً تعادل سنتان دراسيتان، وهو مقدمٍ منظمة سامز لتدريب خريجات التمريض حصراً في اختصاص القبالة. وبرأي القابلة خديجة هذا من أفضل المعاهد كونه يتيح وقتاً كافياً للتأهيل النظري والعملي، ولممارسة متقدمة سريرياً.
من بين المعاهد التي كانت مدعومة أيضاً “المعهد الصحي” الذي كان في مدينة معرة النعمان فاضطر للنزوح أيضاً سنة 2019 بعد سيطرة النظام السوري على المنطقة. هذا المعهد خرّج 45 قابلة قانونية وفق برنامج منحٍ مجانية قبل أن يغلق أبوابه تماماً منذ نحو عام ونصف.
تخبرنا “غيثاء زنكيح” خريجة الدفعة الثالثة للمعهد الصحي ـ القبالة، أن الفارق بين البرامج الحديثة لتعليم القبالة وتلك المعتمدة سابقاً في الجامعات السورية هو التركيز على الجانبين التواصلي والنفسي في التعامل مع النساء. فالمعهد الذي درست فيه خضع لمنهاج مكثف معتمد من منظمة الصحة العالمية بينما المناهج القديمة حسب وصفها “لا تخلو من أخطاء في التعامل مع المرضى وممارسات مؤذية نفسياً وجسدياً للأم والطفل معاً”.
قانون لا يحاسب
ما حصل مع “هبة” التي منعت من الصراخ كي لا يغضب رئيس القسم، تواجهه عشرات النساء في مشافي الشمال السوري، فأكثر من نصف العيّنة أكّدن أنهن تعرضن لاستخفاف بآلام ولادتهنّ وعدم اكتراث بنداء الاستغاثة، بعضهنّ حاول التقدم بشكوى كما فعلت “هبة” بعد خروجها من المشفى مع يقينها بعدم جدية نظام الشكاوى المعمول به، إذا لم يصلها أي رد أو اعتذار من إدارة المشفى.
تظهر نتائج الاستبيان أن 6 في المئة فقط من النساء تقدمن بشكاوى إلى إدارة المستشفيات حول ما تعرضن له من ممارسات خاطئة دون معرفة نتيجة تلك الشكاوى إلى اليوم، في حين لم تتقدم ولا واحدة منهن للشكوى لدى القضاء، وكانت إجابات معظمهن تشير إلى اعتقاد سائد بعدم جدوى الشكاوى في الوصول إلى نتيجة فعالة وحقيقة.
معدة التحقيق تواصلت مع الدائرة الخاصة بالشكاوى الصحية والتي تسمى “شعبة المساءلة” وتتبع دائرة ضبط الجودة في مديرية صحة إدلب. لكن الموظف المسؤول فيها نفى وصول اي شكوى إليه في هذا الصدد حيث أن معظم المرضى يرسلون الشكاوى مباشرة إلى إدارة المستشفى أو إلى المنظمة المانحة.
أما بخصوص الدعاوى المرفوعة أمام القضاء فيوضح المحامي اسكندر الحسين، عضو مجلس نقابة المحامين الأحرار في مدينة إدلب، إنها تنحصر بحدوث خطأ طبي يتم تعريفه استناداً إلى المادتين رقم 189 و190 من قانون العقوبات السوري المعمول به سابقاً، مع فارق أن محاكم الشمال السوري تلجأ اليوم لتنفيذ العقوبة وفق أحكام الشريعة الإسلامية.
ويضيف: “يتم تقديم الشكوى لنقابة الأطباء في إدلب، التي تحقق بالموضوع من خلال الخبرة، فإذا كان الخطأ الحاصل من قبل أي عامل بالمجال الطبي يحال الموضوع إلى القضاء ويتم إجراء محاكمة بحق العامل، في حين كان سابقاً يتم تقديم ادعاء للنيابة العامة مباشرة، ثم يرسل الملف للطبابة الشرعية التي تقدم تقريرها حول الموضوع”. ويؤكد المحامي على عدم ورود دعاوى لدى القضاء بخصوص “عنف الولادة” الحاصل في المشافي، “فغالباً ما يتم تقديم الشكاوى إلى إدارة المشفى مباشرة أو إلى الجهة الداعمة”.
شكاوى “صورية”
حاولنا أثناء إعداد التحقيق التواصل مع مدراء مشافي نسائية وأطباء وطبيبات على رأس عملهنّ، للتعليق على حوادث العنف الحاصلة في غرف الولادة وطبيعة التعامل مع الشكاوى، منهم من استجاب لأسئلتنا، ومنهم من تجاهل الرد لأنه “مشغول جداً”، ومنهم من لم يرد أصلاً.
الطبيب علاء برهوم، مدير مشفى “شفق” في معرة مصرين، قال تعليقاً على إحدى الحالات الواردة في التحقيق أن هناك آلية واضحة لتقديم الشكاوى في مشفاه، و “في حال تقدم المريض بشكوى فسوف يتم متابعتها بكل تفاصيلها ومحاسبة المقصر والمسيء”، مشجعاً كافة النساء المتضررات على التواصل المباشر مع الإدارة، وهو تقريباً الكلام نفسه الذي صرحت به مديرة مشفى الأمومة بمدينة إدلب إكرام حبوش، ومدير مشفى الامومة في مدينة الدانا عبد الإله اسماعيل.
هؤلاء جميعاً، ومعهم مدير مشفى حريتان في شمالي إدلب، الطبيب أديب عبد الرحمن، أرجعوا الممارسات الحاصلة في المشافي إلى الضغوطات المالية التي يرزح تحتها القطاع الطبي في الشمال السوري. يقول أديب “تصل حالات المراجعين اليومية في مشفانا مثلاً لأكثر من 300 حالة يومياً، وهو عدد كبير مقارنة بقلة الكادر الطبي الموجود وهناك مشاحنات وممارسات خاطئة قد تحدث نتيجة ذلك”.
ويشير أديب ومعه بقية المديرين إلى وجود آليات للشكاوى وصناديق موزعة في كافة أقسام المشفى، وأنه تم بالفعل إيقاف إحدى القابلات عن العمل بعد إثبات إساءة معاملتها لإحدى المريضات، “لكن المشفى توقف عن العمل منذ أكثر من خمسة أشهر بسبب نقص التمويل، ولم يعد هناك مرضى أصلاً.. فقط الإداريين والحارس”، يقول.
في المقابل يتحدث موظف سابق يعمل في منظمة أوروبية مانحة عن “خلل” في نظام الشكاوى المتبع لدى معظم المستشفيات في الشمال وعن عدم كفاءة هذا النظام، “فالشكوى تصل إلى موظفي المشافي لكنها لا تذكر في التقارير المرفوعة إلى المموّلين” على حد قوله.
يضيف الموظف لفوكس حلب: “في معظم المشافي يتم إخفاء الشكاوى تجنباً لأي ردة فعل بحق الكوادر والموظفين، والأهم من ذلك كي لا ينقطع التمويل، وبالتالي لا تعدو آلية الشكاوى مسألة صورية فقط وليست جدية كما ينبغي”.
النساء اللواتي قابلناهن أثناء إعداد هذا التحقيق روين قصصاً عديدة تجري تفاصيلها وراء أبواب غرف الولادة، خصوصاً مع النازحات من سكان المخيمات العشوائية اللواتي يشعرن أن التعامل معهن لم يكون على نفس سوية التعامل مع النساء الأخريات، لكن اللافت أن معظم هؤلاء النساء لا يعرفن أصلاً بأن تلك الممارسات محظورة طبياً وتصنّف على أنها “عنف ولادة”.
عند حديثنا مع أم أياد، وهي سيدة في منتصف العقد الثالث من العمر، من ريف إدلب، اكدت أنها لم تسمع بهذا المصطلح من قبل. قالت إنها أنجبت أربع أولاد في ثلاث مستشفيات مختلفة، وأنها اختبرت مواقف صعبة مع الكادر الطبي، ومع فريق التمريض، “سمعتُ إهانات وألفاظ مسيئة، تم منعي من التعبير عن الوجع وأنا في غرفة المخاض، لم أحظ بحد أدنى من الخصوصية أثناء الفحص الطبي أو أثناء الولادة، لكني اعتقدت طوال الوقت أن تلك السلوكيات هي من صلب عمل الكادر الطبي أو أنها ربما من أساسيات التوليد”.
تصحيح محرر موقع “فوكس حلب” ( بتاريخ ٢٣ آب/ أغسطس):
تم تصحيح توصيف أحد المصادر الطبية في التحقيق من: “الطبيب كمال جمعة، مدير مشفى المجد” إلى: “كمال جمعة، مسؤول طبي في مشفى المجد”، وتصحيح مصدر تمويل معهد القبالة في ترمانين من: “وهو مقدمٍ من صندوق الأمم المتحدة” إلى: “وهو مقدم من منظمة سامز”.
أنجز هذا التحقيق بدعم وإشراف من شبكة نيريج للصحافة الاستقصائية